كيف تعلمنا أن نكون ليبيين في اليمن السعيد

"ريم جبريل"

كان والدي يقول إننا أبناء ضابط (يقصدني وأخواتي وأخي)، إلا جمانة أختنا الصغيرة فهي ابنة سفير.

أنا لا أذكر أبي الضابط، كنت رضيعة عندما احتجز وجُرِد من رتبته العسكرية في ثورة سبتمبر وحين أرسلوه بعدها بأشهر بصفة سفير لليونان، ولكنني أتذكر حين كان سفيراً في اليمن الجنوبي والسنوات التي قضيناها في عدن.

 

أولاً، سكنا في عمارة مخصصة للأجانب وعُرفنا بأننا "العائلة الليبية"، كونا صداقات كثيرة وكنت واخي العضوين الليبيين في "عصابة القناع الأسود" التي ضمت أطفال العمارة.

بعد سنة انتقلنا إلى بيت مجاور للسفارة، كان أبي يقضي أغلب وقته في مكتبه وكنت أذهب لأشاهد الضيوف الذين يأتون لزيارته هناك؛ وترقبًا لأن يسمح لي بالدخول إلى مكتبه. حينها كنت أجلس وأنقر على الآلة الكاتبة القديمة، وكانت سلمى السكرتيرة تأتي لنجدتي كلما تشابكت حروف الآلة الكاتبة لأستمر.

لا شك أن النوستالجيا تحرف الحقيقة، لكن تلك الفترة في اليمن كانت حقاً رائعة، حتى المدرسة التي عادة ما يكرهها الأطفال كانت ممتعة. درست في المدارس اليمنية من السنة الثالثة حتى السادسة وكانت دراستي تبدأ ظهراً، كنت أستيقظ وأتناول الفطور وأرتدي البنطال البيج والقميص الأبيض وأذهب للمدرسة.

في السنة الأخيرة  كنت أعود من المدرسة لبيتنا الفارغ وأتسلق القرميد الأحمر لأصل إلى التراس ومنه إلى البيت لأغير ملابسي، بعدها ألتحق بعائلتي وأصدقائي الذين سبقوني لنادي "الجولد مور"، كنا نقضي باقي النهار هناك، امي وصديقاتها يمضين الوقت بشرب الشاي والتطريز وأنا وإخوتي وأصدقاؤنا نسبح ونلعب في أنحاء النادي أو نتسلق الجبل المجاور له. في أيام الجزر حين ينحسر البحر كنا نجد متعة كبيرة في ملاحقة السرطانات التي تجري وتختبئ في الحفر، وإذا مللت كنت أقنع العاملين في مطبخ النادي أن يسمحوا لي بمشاهدتهم وهم يحضرون الوجبات المختلفة.

كانت العائلات الليبية تذهب معاً لرحلات خارج عدن، في إحدى الرحلات وبعد يوم طويل من اللعب والسباحة والشاهي والكاكاوية اكتشفنا أن مفتاح إحدى السيارات قد اختفى بين طيات الرمال، أذكر أن السيارات وُجِهت لتضيئ الشاطئ وبدأ الجميع البحث عن المفتاح، لا أذكر بعدها إلا أختي الكبرى توقظني من النوم وأنا في حقيبة سيارة الداتسون العائلية عند وصولنا للبيت.

آخر احتفال سبتمبر لنا في اليمن كان في حديقة المنزل الشاسعة التي كان يغطيها العشب الأخضر والتي يومها كانت ممتلئة بالضيوف من كل أنحاء العالم، حين دخولي للحفل وجدت أبي مع بعض الضيوف يتحدثون، أحدهم سألني مباشرة إن كنت ليبية أم عربية؟ فكرت قليلاً ثم أجبته بأني ليبية؛ فانفجر هو والآخرون ضحكاً لأنه ظن بأن إجابتي تعني أنني لست عربية، هو طبعاً لم يدرك أن في العامية اليمنية التي كنت أتقنها كلمة "عربي" تعني اليمنيين فقط وليس باقي العرب، ردي كان سببه أنني لم أفهم سياق سؤاله، ليس لأنني لا أعرف أنني ليبية وعربية معاً.

 

بعدها بعدة أشهر طُلب من والدي العودة إلى ليبيا، وحين وصل سحب منه جواز سفره لأن النظام اشتبه بانضمامه لأحد الأحزاب السياسية، اضطررنا عندها للبقاء في اليمن لإكمال السنة الدراسية.

وفي شوق كبير لوالدنا ووطننا وأجواء الشتاء عدنا لليبيا، في مدرستي الجديدة  لم أكن الليبية الوحيدة وعندها عرفت الاختلافات بيننا وما وراءها، أما والدي الذي مثل ليبيا سنوات طويلة ضابطاً ودبلوماسياً بات شرقاوياً للكثير ممن حوله.

كنت ومازلت أنزعج من أنه لا يكفي أن تكون ليبياً في ليبيا، وأصبح عليك أن تكون خارج الوطن ليأتيك ذلك الإحساس. ترعرعت داخلي صورة لليبيا كوطن كبير مليء بالحيوية والمحبة، كثيراً ما تغيب عني هذه الصورة الآن، ولأسترجعها أتذكر أيام اليمن لتبقى ليبيا كما كانت: بلدي الذي أشتاق له دائماً.

مواليد بنغازي، فنانة تشكيلية وناشطة ثقافية، شاركت في عدة معارض في ليبيا، مصر، إنجلترا والولايات المتحدة.

ريم جبريل
القصة التالية
ربّاي العناقيد
القصة السابقة
تعالوا، شوفوا هذه الصورة