أنساك

"سالم العوكلي"

مازالت أغنية (أنساك) تبكيني؛ لأنها أول أغنية سمعتها لأم كلثوم مضطراً حينما كنت أرعى الجداء وتحصلت على آلة تسجيل وليس لدي سوى شريط واحد لهذه الأغنية.

تعاملت معها كلعبة صوتية في البداية، لكن شجنها تسرب إلى داخلي رويداً رويداً وعشقتها مبكراً.

توفيت أم كلثوم وأنا في الصف الثالث من المرحلة الإعدادية، وفوجئت بمعلم اللغة العربية المصري عبدالقادر الدقادوسي يكتب لنا عنوان مادة الإنشاء (أم كلثوم). تلفت التلاميذ إلى بعضهم البعض، لكن الدموع التي ترقرقت في عيني المعلم جعلتني أتحدث عن علاقتي الوحيدة بها وعن أغنية أنساك، التي مازلت حين أسمعها أشم رائحة ذاك المكان، الزعتر والشيح والجداء، أتذكر ذلك الطفل المتورط في آلة تسجيل وأغنية واحدة يسمعها طوال النهار فتنهمر دموعي، والبعض كتب عن عجوز في القرية اسمها كلثوم كانت تاجرة متنقلة (دلالة).

أيام الخميس، خلال حصار داعش لدرنة، كنت أشتاق لأصدقائي في درنة الذين كنت أسهر معهم كل خميس، لا أستطيع الذهاب إليهم ولا يستطيعون المجييء، رغم أني ألمح بهرة أضواء درنة من شرفتي إلا أنهم بعيدون جداً. رجب الهنيد الذي سجن في العهد الملكي وفي العهد الجمهوري وفي العهد الجماهيري قتل ثوار سبتمبر شقيقه، وقتل ثوار فبراير زوجته، وهو في السبعينيات من عمره لا يبدو سوى ظل أسمر من الحزن يسير ببطء شديد ويبحث عن أصدقائه في كل مكان ليأنس بهم. وأوهيبة الشاعري الذي لا تراه إلا وهو يحمل سلة مملوءة بالياسمين والبرتقال ويوزعها على كل من يحبهم غاضب بطبيعته ويشتم كل شيء، لكن رائحة الياسمين النابعة من سلته تروض عادة هذا الغضب.

وفتحي الشويهدي رسام الكاريكاتير الذي يتحول كل شيء عنده إلى فكاهة، ولا يرى العالم سوى بعين الساخر رغم كل الخوف المكتظ به من الحرب ومن الموت، عاشق أم كلثوم الذي كان كل رمضان ينزل كارتونة أشرطتها ويسمعها من جديد، وفي العيد يقول لي: "ختمت أم كلثوم والحمد لله".

كنا نسهر كل خميس في شقة والدته بشارع البحر، وفتحي -المندهش من كل شيء- كان مبهوراً بما في شبكة الإنترنت من مخرون من الأغاني الشرقية التي يعشقها، وكان يجد صعوبة في العثور عليها، وبمجرد أن يطلب أغنية قديمة أستحضرها عن طريق خادم الجوجل، الذي أصبح يسميه (الإله) الذي يستجيب بسرعة، وكنت كمن يقدم برنامج ما يطلبه المستمع فتحي، وكل سهرة أختم بنشيدي الوطني أغنية أنساك:

ذكريات حبي وحبك ما انساهاش

هي أيامي اللي قلبي فيها عاش

فيها أحلام قلتها وحققتها لي

فيها أحلام لسه أنا ما قلتهاش،

اللي فات من عمري كان لك من زمان

واللي باقي منه جاي لك له أوان

وأحب ثاني ليه وأعمل في حبك إيه

ده مستحيل قلبي يميل قلبي

ويحب يوم غيرك أبدا، أبدا

أهو ده اللي مش ممكن أبدا

ومعها يتمايل فتحي طرباً؛ وكأنه في حضرة صوفية، ومعها تتسرب في داخلي رائحة تلك الجداء الصغيرة وأوراق البطوم والزعتر البري، ورائحة التراب مع أول مطر.

مواليد القيقب بالجبل الأخضر. شاعر وروائي. صدر له عدة دواوين شعرية وروايات منها “بنات الغابة”، “لالي”، و”اللحية”. كاتب مقال رأي تنشر مقالاته على موقع بوابة الوسط والعديد من الصحف العربية.

سالم العوكلي
القصة التالية
تلك النساء المزركشات
القصة السابقة
ربّاي العناقيد