تلك النساء المزركشات

"سراج الورفلي"

لقد وُلِدت من نساءٍ عظيمات، عجائز مزركشات بالزغاريد والحناء، كان من صدرهن الأبيض يخرج البخور والقمح المطحون، على جباههن وأذقانهن وسواعدهن أكثر الوشوم قسوةً ووحشية، والكحل الأسود الحاد يجعل فرائسهن تتَّجه إليهن بلا إرادة. علَّمْنَنِي الشعرَ والغزلَ والموتَ واقفًا كالسخرية!

إحداهن قبل أن تموت أعطت لابنها مالًا، قالت: هذا سعر الكفن ومصاريف الدفن، وهذه أوراقي كي لا يعطلكم موظف البلدية.  الأخرى قالت: غسِّلوني أينما كنتُ وادفنوني بسرعة، لا تجعلوني كبشة محنطة فوق سريري. كبرياؤُهنَّ يجعلهن يمُتْنَ وحيداتٍ، لن تكتشف جروحهن إلا بعد أن يختفِينَ تماماً، لا يمكن أن تراهُنَّ منهارات، يُلَقِّنَّ الأزواجَ والأبناءَ والجارات الشهادة، يُنَيِّمْنَ رأسَ  المريضِ على أفخاذهن المحشوةِ بالقطن و يمسدْنَ جسده بالزيت الساخن والمعوذات، يوسِّعْنَ حلق الأطفال بأصابعهن المجعَّدة، ويثقبْنَ آذانَ البناتِ الصغيرات، لا يكترثْنَ لبكائهنَّ من أجلِ أن يضعْنَ فيما بعد أجمل الأقراط. يحرثن الحقول، يبنين البيوت، يذبحْن الدجاج، ويعددْنَ الشاي بالكاكاوية المحمَّصةِ وهن جالسات فوق النطوع.

في أشد ليالي الشتاء برودةً و قسوةً يُمَرِّرْنَ التاريخ الحقيقي للعالم من جيل إلى جيلٍ دون أن يجملن النهايات. حكايتهن هن أجمل الحكايات، يغرسْنَ عقول الصبية بالأحاجي ليستعدوا لألغاز الحياة، ثم يُعَلِّمْنهم كيف يبتكرون الأحاجي ليكونوا هم أنفسهم لغزًا في الحياة. في الأعياد تجدهن يمارسن الطقوس البدائية لأسلافهن: يضعن الحِنَّاء على رأس الأضحية، يأخذْنَ المرارة ويقذفن بها على أقرب جدار، يغمسن أيديهن بدمها ثم يطبعن على صوفها (تخميسة) اليد، يعلِّقْنَ رأس الأضحية في إحدى زوايا الأسطح.

بربريات، خجولات، كريمات، يعرفْنَ كل النكات البذيئة عن الرجال، يعشقْنَ التجارة ويعرفْنَ الحياة السرية للقمر. بحَّارات بالفطرة؛ يتنبَّأْن بالطقس وحركة الرياح. مسالمات ومع ذلك يمكنهن بحنكةٍ أن يقُدْنَ قطيعًا كاملًا من الذئاب الجائعة. يحرسن أحفادهن من بطش آبائهم، يهدين زوجات أبنائهنَّ شفرات خوارزميات عقلهم الباطن، وككل أناث الكائنات الحية يعشقن المخابئ. لون جرودهن كالجراد والخنافس الطينية، هكذا يُموِّهْنَ حركتهن بين المحاصيل، يعشقن أبناء بناتهن لأنهم الورثةُ الجينيون الحقيقيون لهنَّ. وحتى بعد أن اختفت الأساطيرُ وفُصِلَ الأنبياء من أعمالهم، مازِلنَ يمارسْنَ عملهن ككاهنات في أعمق كهوف روحنا.

في هذه الصور أحد مراسم (الطهار)، حيث تجتمع العائلة في احتفال أشبه بالعرس الصغير، يشبه لحظات التعميد؛ حيث بعد سنتين من الصراخ بلاهوية يعترف بك هنا كذكر حقيقي، حيث تحملك جدتك (أم أمك) إلى الطبيب ليقوم باستئصال قطعة لحم من قضيبك الصغير، والتي سأقضي فترة طويلة من مراهقتي معتقداً أنها كانت ستحدث فرقاً لو كانت موجودة.

إنه مزيج من تاريخ ليبيا الكبير يسكب دفعة واحدة هنا، مزيج بين الديانات اليهودية والإسلامية والوثنية، ومزيج بين الطبع الأفريقي والعربي والأمازيغي وسكان البحر الأبيض المتوسط. إن هذا الاجتماع العائلي البدائي يفشي نوعاً من السعادة المطرزة بالبخور والفاسوخ والجاوي والمياه الدافئة، إنه سحر الأسلاف ولوحة مدهشة تم تمريرها من كهف إلى كهف وأنت ملقى بألمك المعنوي والجسدي وحولك أولئك الأمازونيات الليبيات وهن يصفقن ويغنين الأهازيج ليهون من معاناتك. كل ما أرتديه في الصورة هو تمائم وتعويذات للحماية من الشر والحسد، في الأولى أرتدي القبعة التي عليها من جهة الأمام سمكتان تتوسطهما تخميسة اليد، وهناك قطعة من قرن صغير أضعها حول عنقي، وهذه تعويذه عمرها آلاف السنوات (حوتة وخميسة وقرين)، وموجود بين جدتي (أم أبي) وجدتي (جدة أمي).

في الصورة الثانية وأنا بين يدي جدتي (زوجة عم أمي)، كنت أضع حول عنقي عقداً من القرنفل، وعلى ردائي الأبيض مكتوب بماء الزعفران كلمة (الله أكبر)، أخذت هذه الصورة في منتصف الثمانينيات وصارت بالنسبة لي من الأشياء القليلة الباقية التي تذكرني بليبيا التي أنتمي لها.

مواليد تونس، شاعر وروائي لديه أربعة دواوين ورواية. تحصل على عدة جوائز في مجال الشعر ونشرت وترجمت بعض أعماله في المواقع والمجلات الليبية والعربية.

سراج الورفلي
القصة التالية
أشياء في منتهى السعادة