"سعاد سالم"
يفرك الحنين الذكريات كما يفرك أبي أواني النحاس بليمونة وحفنة تراب؛ لتلمع من جديد كل الأشياء البعيدة.
سالم الزوق
لم نحضر مباريات لوالدي لكننا أغرمنا جميعنا بكرة القدم، كلنا أولاده صبياناً وبناتٍ، وتثقفنا بصورة تلقائية في لعبة كرة القدم. هل كان أبي لاعباً بارعاً؟ حينما كبرنا كان زمن طويل مر، ولم نعرف إلا عناوين صغيرة عن تلك الفترة من حياته، لم أكن ولدت بعد حينما أصيب في مباراة مع فريقه (الشرطة)؛ إذ كان شرطياً، وبصورة تراجيدية أنهت تلك الإصابة مشواره الكروي والمهني مبكراً، ظل ما تبقى من حياته يثني ركبتيه بدرجة 90 بعيداً عن جسمه.
فيما أعيش بعيداً الآن تبدو مواسم كرة القدم وكأنها الوطن، أفتح التلفاز وأترك أصوات الجمهور تهدر في غرفة المعيشة وأذهب إلى شأني؛ أقرأ أو أكتب، أو أطبخ، وكأنني على وشك أن أسمع أصوات والدي وإخوتي تعلو محتجة أو فرحة مع تمريرة لاعب ما، أنام وأترك أهازيج الجمهور وصوت المعلق وطيف أبي المتكيء قبالة التلفاز يؤنس قلبي ويبدد وحشة نومه هناك في شط الهنشير.
منذ عمر الخامسة درّب والدي شقيقي باسم، وفي الثمانينات وباسم في العاشرة تقريباً صار هدّاف دوريات الشارع (بن عاشور)، ثم صار يُعار من قبل دوريات الشوارع والأحياء المجاورة. هل كان أبي بارعاً؟ نعم؛ هكذا أراه.
2.
أمنح بعض المساءات والليل العميق لعبد الحليم، يلمّع الثريات وسط قلبي ويبشبش نباتاتي الضعيفة في ساقي، ويبارك عتبة البيت؛ صوته الذي ينتشر كحزمة نجوم متهورة أترك لها خصري وقهوتي الثقيلة وكتاب يومياتي وسقف رأسي، وللكلمات توقظ الحديقة الساكتة، والمقعد الخشبي الأبيض في بلكونتي الصغيرة.
حين أفعل ذلك إنما أهدي تلك المساءات الفاتنة إلى أبي الذي أحب حليم وكنّا نسمعه معه ونغني معه: ويدور الزمن بينا، يغيّر لون ليالينا، يابوي.
قلبي مثل بيت جدتي بلا سقف، واسع ونوافذه للداخل، قديم، لبابه مطرقة على شكل يد، ولا يخلو من الخبز والضجيج والدعاء.
3. عيشة الزوارية (الحاقا)
"لفلوس اوسخّ إيدين". على هذا المركب المترنح باشرتُ التوغل في حياة نصف أليفة، مفتوحة على السماء وخرّافات المساء مع الحاقا ( ولدت بعد وفاة والدها )، جدتي عيشة غدت بروليتارية بعدما نفخت الريح أغلب ماتركه والدها، ثم حكيمة صبورة، تقول: لتحْتَمِلي الحياة بلا مال حوّليه إلى قمامة؛ تكنسينها برغبتك خارج الباب. ثم تضحك بصوت صغير أغلبه مكتوم فيهتز صدرها المكتنز وكتفاها، وكان يعني ذلك أنها تسخر. كنت رعناء أنطلق في معافرتها، لكن الحكيمة تعود وتفتح يدي لتضع بضعة قروش كانت معقودة بحاشية منديل تدسه في شلامتها، فأركض إلى دكان عمي الزاوي على الناحية المقابلة للطريق، متصورة الزقاق المترب طريقاً شقته في البحر نقودها الدافئة.
حوش حنّاي في السوالم، وجهتنا المفضلة في مائة صيف قديم.
كنت اعتقدت وأنا أجر حقيبتي في مطار طرابلس 2014 أنني تركت كل شيء خلفي و للأبد.
مواليد طرابلس، صحفية وشاعرة، حصلت على بكالوريوس في الاقتصاد من جامعة طرابلس، عملت في الصحافة والإعلام مع عدة صحف ومجلات ليبية. صدر لها ديوانان: “بن يتحمص جزر ممكنة”، و”الصدفة كل ما أنا”.