‎المنزل رقم 1275

"صفوان أبوسهمين"

في مخيلتي مدينة جميلة بها معالم وحكايات، مقاعدها الخشبية وأزقتها المرقمة وصناديق البريد الموجودة أمام منازلها.  كنت أعيش مع أسرتي في مدينة رأس لانوف شرقي ليبيا، وهي من المناطق الصناعية المستحدثة التي خصصت لعمال الشركات النفطية.

مدينتنا قُسمت بالأرقام من 1 إلى 7، لنا ذكرى مع كل رقم فيها، ولنا ثقافة نتعلمها من جيراننا  القادمين من خلفيات مختلفة وثقافة مختلفة ولهجة مختلفة وعادات مختلفة، بالرغم من أننا كلنا كنا ليبيين؛ غير أن هذا الاختلاف علمني بعمق أن الخلاف وسط التعايش هو أجمل هبات الكون لنا.

كان بيتنا الصغير رقم 1275 في الحي رقم 7 الذي له "حديقتان"، الحديقة الخلفية بها عدة أشجار كان أشهرها " الكرموس"  أو التين ( ايمطشان) باللغة الأمازيغية. لطالما أحببت تلك الشجرة فهي تذكرني بجدتيَّ، أما الحديقة الأمامية فقد كانت مملكة خاصة للعنب الأسمر السكري الذي كنا ننتظره سنوياً بشغف.

في تلك المدينة روح لم نفهمها عندما كنا أطفالاً؛ لأني لم أكن أعرف الفرق بين اللهجات المحلية للمدن الليبية أو فوارق لون البشرة وتنوع العادات والتقاليد المختلفة. كل هذا كان بنظري عادياً لأننا أبناء الحي نفسه ونعيش معاً ويحب بعضنا بعضاً ونحترم هذا التمازج الجميل، حتى أننا صرنا نتعلم لهجات بعض.

لكم أن تتخيلوا أن جيراننا كانوا من ( مسلاتة - بنغازي - سبها - طرابلس - ترهونة – أجدابيا - العجيلات-  مصراته – درنة – يفرن - بن جوَّاد- البيضاء). كانت ليبيا الصغيرة تتفاوت العادات وأصناف الطعام بها بين بيت وآخر وأسرة وأخرى، غير أن المتعة كانت أننا كنا نعشق كركاديه عمتي سعاد من بنغازي وجربنا الزمّيتة بالسكر من بنت جيراننا أماني من مسلاتة. جارة أخرى مصرية زوجة مواطن ليبي من سبها كان اسمها سَحر -والتي لطالما أزعجتها بمناداتي لها بأبلة سِحر- علمتنا الكثير عن الاحترام والاستئذان وعدم التنابز بالألقاب وآداب الحضارة والمدنية. ومما لا يمكن نسيانه عن جيراننا هو حلويات الباتشي والغريبة واختراعات كل عيد، فكنت دائماً أنتظر بلهفة ما تجود به جاراتنا من حلوى العيد.

في شارعنا الصغير لم نسمع يوماً أن فلاناً أمازيغي وفلاناً شرقاوي أو  كون فلان غرباوياً؛ فقد كنا اطفالاً أوجدتنا الظروف أمام عائلات بعيدة عن مدنها، تحررت من الكثير من المحددات والشكليات وواجبات الشكل الافتراضي للحياة كما في المجتمعات المتشابهة والمغلقة. كنا في الحي رقم 7 براس لانوف مجتمعاً عاش على تنوع أنغام لهجاتنا المختلفة: خيرك واشبيك وكنك؟ وعلى نكهة المثرودة والرشتة والبازين والرز بالخلطة؛ وكل هذا خلق داخلي صورة من ذكريات جميلة أحبها، أفهمها الآن جيداً وأريد أن أشاركها معكم حباً وأملاً في مستقبل أفضل.

مواليد سرت، صحفي وباحث في الشأن الليبي، يشغل منصب المدير التجاري بشبكة سلام الإعلامية. قدم العديد من البرامج السياسية والاجتماعية ونشر عدة مقالات في مواقع وصحف دولية

صفوان أبوسهمين
القصة التالية
النذر بين الأخت وأخيها