"طه كريوي"
تمثال الحسناء والغزالة الذي اشتهر بالـ"غزالة" أو ميدان الغزالة، عرفه كل من زار طرابلس كمعلم من معالم العاصمة، ورمزاً معنوياً لليبيا. والرسام والنحات الإيطالي المبدع "أنجيلو فانيتي" الذي كانت له العديد من الأعمال المميزة التي سبقت هذه التحفة الفنية أبدع في إنجازه نسختين منها، أسماهما (نبع الحياة)، لتزين النسخة الأولى منه طرابلس عام 1932، والثانية إحدى الميادين في إيطاليا. ولكن تلك التسمية اندثرت في طرابلس سريعاً وأصبحت الحسناء والغزالة، في إشارة إلى ليبيا الحسناء أرض الواحات والغزلان.
اعتاد أهل طرابلس عقوداً طويلة وجودَ الغزالة برفقة الحسناء في مكانها، ورؤيتها في مرورهم على ميدان الغزالة، بل حتى أن الكثير من الليبيين كباراً وصغاراً من خارج مدينة طرابلس كانوا يحرصون على زيارة هذا المعلم كلما زاروا طرابلس.
لا يمكنني أن أتذكر متى عرفت هذا المعلم، ولا متى عرفت أنه أسمه (الغزالة والحسناء) ولكنني بالتأكيد عرفتهما قبل حتى أن أتعلم المشي والكلام، وقبل أن أعرف اسمي حتى. ولست أعرف ايضا عدد المرات التي زرته فيها رفقة والديَّ، قبل أن أدرك ماهية هذا الشيء الذي اعتادت رؤيته عيناي، كما اعتادته عيون كل من يعيش في طرابلس، لا سيما من عاشوا في قلب المدينة، ولا عدد المرات التي التقطت لي فيها صوراً صحبة الحسناء والغزالة. لكن في هذه الصورة بالذات كنت بالكاد قد أتممت العامين من عمري.
في سنوات طفولتي توالت زياراتي للمكان بشكل متكرر، مصادفةً أحياناً، وخصيصاً في أحيان أخرى. لم أدرك وقتها سبباً لهذا التشبث بالمكان والتمثال معاً، إلا اعتبار ما تمثله تلك الحسناء وتلك الغزالة من قيمة فنية وأصالة، وأيضاً للترويح عن النفس بمشاهدة نافورة المياه تلك المحيطة بهما، بعد أن شملهما الاهتمام ومحاولة لتطوير وتجميل المدينة آنذاك.
ومع مرور الوقت حين كبرت أصبح موقع الميدان بنافورته وحسنائه وغزالته مضرباً للمواعيد واللقاءات مع الأصدقاء والزملاء، لما وفرته المقاهي المحيطة به من أجواء، حيث ستجد الكثير من المثقفين والكتاب والأدباء والشعراء والفنانين. صار هذا المعلم جزءاً من هويتي الذي أرى من خلاله صورة طرابلس حيث تتجسد فيه المدينة برمتها، بل أرى فيه حاضرها وماضيها الممتد إلى ما قبل تشكل واستقلال الوطن الذي أنتمي إليه من ناحية، ومن ناحية أخرى بات محطة لاستعادة الذكريات، وتذكر أهم الأحداث على الصعيد الشخصي والعام.
طيلة فترة وجود تمثال تلك الحسناء العارية بجدائلها رفقة الغزالة وجرة الماء، وسواء كان ذلك في الحقبة الإستعمار أو حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية وثم الاستقلال وعهد الملكية، مروراً بعهد القذافي، في السبعينات والثمانينات والتسعينات وحتى خلال الألفية الثانية، لم يعر الليبيون عراء الحسناء اهتمامهم ولم يثر حفيظتهم يوماً كما حصل بعد فبراير 2011 جرت بعدها محاولات متكررة لطمس الحسناء والغزالة من ذاكرتنا؛ ففي عام 2012 قام بعضهم بتغطيتهما بقماش وحبال، في إشارة إلى حجبها وتكفينها، وفي السابع والعشرين من أغسطس عام 2014 أطلق أحدهم قذيفة (آر بي جي) لتصنع تجويفاً كبيراً في بطن الحسناء، وكسر في إحدى قوائم الغزالة، وفي الرابع من نوفمبر من نفس العام تمكن مجهولون من خلع التمثال من مكانه، وتم إخفاؤه حتى اليوم.
ومع مرور أكثر من ثمان سنوات الآن على اختفاء الحسناء والغزالة مازال مكانهما يحمل نفس الاسم، وسيظل ذلك المعلم محفوراً في أذهاننا، ولن يمحى من ذاكرتنا ومن تاريخنا ولا حتى من صورنا.
مواليد طرابلس، حاصل على بكالوريوس هندسة حاسب آلي، صحفي، مصور، مدرب صحفي وإعلامي، فنان متخصص بالفنون البصرية.