النشرة شبه المقدسة

"عايدة الكبتي"

بدأت علاقتي بالإذاعة منذ طفولتي، حيث كنت إحدى الأطفال المشاركين في برنامج الأستاذ عبدالله كريسته بالراديو برفقة أخي صلاح. أما عن التحاقي بالعمل الإذاعي فقد كان الأستاذ مصطفى بن شعبان زميل والدي في سفارتنا بالقاهرة، وعندما رجعنا إلى ليبيا واضطررتُ للعمل أخذني الأستاذ مصطفى للعمل في المكتبة الفنية بالإذاعة تحت إشرافه. وعندما أعلنوا عن قبول مذيعين بالإذاعة (الراديو) نصحني هو بأن أتقدم اعتماداً على إتقاني اللغة العربية الذي عهده عني، وفعلاً قدمت ونجحت في الامتحان وبدأت العمل.

قدمت برامج كثيرةً من بينها أول برنامج خاص بي عنوانه (أول حرف) وقد كان عبارة عن موسوعة إذاعية؛ إذ أختار حرفاً معيناً كحرف الألف مثلاً وأستمر به عدة حلقات، وأتناول فيها كلمات ومصطلحات تبدأ بذلك الحرف.

يعتقد البعض أن قراءة نشرة الأخبار عمل سهل؛ إلا أنه في الواقع ليس بمقدور الكل ذلك دون ارتكاب أخطاء يقع فيها غير المتمكن من القراءة أو من لم يتدرب. حينها كانت النشرة شبه مقدسة لا يمكن أن تتأخر ولو لثوانٍ قليلة، ومن يخطيء في القراءة يتم إيقافه فوراً، ولا يرجع إلا بعد أن يحسّن من أدائه. كنت أتحمل الوزر الأكبر من غياب بعض الزملاء، ففي حالة غياب أحدهم كان قسم الحركة يرسل السائق إلى منزلي لاصطحابي لقراءة النشرة، حدث ذلك مراراً إلى أن أتت عفاف زهران من إذاعة الشرق الأوسط وتحملت معي ذلك العبء.

كنت أذهب إلى قسم الأخبار قبل النشرة بوقت كافٍ وآخذها من المحررين، وإن لم تكن جاهزة آخذ الخبر الجاهز وأقوم بتشكيل الحروف والوقفات حتى لا أخطئ، بعد ذلك أذهب إلى غرفة البث الرئيسية التي يربطنا بها شباك كبير من الزجاج. كنت لا أحتاج للفنيّ المناوب لأخذ إشارة البدء، بل أستمع إلى صوت (التيك) وهو صوت إضاءة اللوحة الحمراء التي تعلن أننا على الهواء، والتي لا يسمح لأحد مهما كان أن يدخل الأستوديو بعد إشعالها.

عندما أباشر قراءة النشرة أكون غير آبهة بما يحدث، ولا أرفع عينيّ إلا بعد انتهائها حتى لا أتلعثم.  وقد حدث مرة أن أحضر أحد المحررين خبراً عاجلاً ولكنني لم أرفع عينيّ، واعتقد هو أنني أرفض القراءة غافلاً عن مدى خجلي من أن يراقبني أحد وأنني لا أستطيع أن أعمل شيئين في آن واحد. عوقبت نتيجة ذلك بتمديد فترة بقائي في الدرجة الخامسة ستة أشهر أخرى، وكما يقولون (علقة تفوت ولا حد يموت).

أما ما يخص التليفزيون فالمهمة أصعب؛ فبالإضافة إلى تصحيح الأخبار كنت آخذ شريط الأفلام وأذهب إلى قسم المافيولا لعرض الشريط السينمائي المسجل وأشاهد الأفلام الخاصة بالنشرة. كنت أتابع الفيلم مع النشرة وأدون ملاحظاتي على الخبر وأحدد متى أسترسل ومتى أنتظر، وأحياناً كان يوضع خبرٌ خطأً مكان آخر ولكنني كنت أتدارك الأمر؛ لأنني دائماً جاهزة.

أستوديو التليفزيون أكبر بكثير من أستوديو الإذاعة، وحين نكون على الهواء يخرج جميع الفنيين ولا يبقى إلا مصور الكاميرا؛ وذلك حتى لا يتم التشويش على المذيع أو صدور حركة لا إرادية من أحدهم، كما أن وهج الإضاءة المسلطة على المذيع يجعله لا يرى فنيَّ الكاميرا. تبدأ الأخبار بإشارة (التيك) وهو صوت اللمبة الحمراء الصغيرة على الكاميرا التي أمامي، أراقب الأخبار على المونيتور الذي أمامي، وأتابعها فيه وأربطها بما معي من مكتوب وأقرأ.

هذه الصور هي الوحيدة الملونة لي خلال عملي، وفي الأخرى أضع الهيدفون على الرأس الذي في الحقيقة لا نستعمله؛ لأننا لم نقدم أي برامج على الأثير بمشاركة المستمعين، لكن التصور بالهيدفون كان موضة حينها بين الإعلاميين.

مواليد القاهرة، عملت مذيعة ومقدمة برامج بالإذاعة وكانت أول مذيعة بالتليفزيون الليبي حين تكوينه عام 1968. اشتغلت في التعليم 40 عاما ، صدر لها ثلاثة كتب عن سير الرائدات الليبيات.

عايدة الكبتي
القصة التالية
البِركة عشق لا ينتهي
القصة السابقة
من بدايات التأسيس الثقافي