"عبد الحفيظ الغويل"
حي البركة مكان إقامة والدي عبدالجوّاد اغويل الحسوني، فبيته لا يزال فيها، بيت كان يؤوينا جميعاً رغم صغره، مكث فيه والدي إلى أن توفّاه الأجل في عام 1983عن عمرٍ ناهز الأربعة والسبعين عاماً. يقع البيت على حافة مثلث (الرويسات، بوزغيبة، البركة)، على بُعد خطوات من سينما الوحدة التي بنيت في أوائل الستينات.
سألني والدي بإلحاح وهو على فراش الموت أن آخذه بالسيّارة في رحلة قصيرة يودّع فيها البركة، جهّزت نفسي لنقله إلى فرجته الأخيرة وانطلقنا. لكنّ أحد أقربائي فاجأني معارضاً خروج والدي معي: "كيف تَخرُج برجلٍ وهو على فراش الموت؟"، كان ذلك يوم الخميس 12 يناير 1983. أذعنت لما قاله ابن العم خوفاً من أن يموت والدي بين يديّ وأنا أقود السيارة، توقّفت عن مشروع النزهة ورجعنا للبيت.
في اليوم التالي وهو يوم الجمعة تركني والدي إلى مثواه الأخير، دُفن ذلك اليوم في جبّانة سيدي اعبيد، ووضعه في القبر حفنة من الأصدقاء ولفيف من أبناء القبيلة والجيران.
لكن تلك الحادثة ترسّبت في ذهني، لم تفارقني وظلت تغزو ذاكرتي بين الحين والآخر، كيف أرفض طلباً لوالدي وهو على فراش الموت؟ أرفض نزهة قصيرة ورؤية أخيرة لدُنيا عاشها في مكان عاش فيه ومات!
كان والدي جوّاد رجلاً مكافحاً عزيزاً، وكان حي البركة نَجْعَه وسكانُه قبيلتَه، تربّى وسطهم بعد تركه قرية بويرات الحسون في وسط ليبيا وهو لم يتعدَّ العاشرة من عمره، بعد وفاة والدته واستشهاد والده في الحرب ضدّ الإيطاليين نزح إلى بنغازي مع أختيه.
أصدقاؤه في البركة عملوا معه في النافي "الداقادوستا"، ومنهم أيضاً من عمل معه في ورشة تصليح الموتُّوَات التي أنشأها والتي كانت تقابل عمارة السافطية بين مكواجي عبدالله السوداني وسكليستا خليل بوقرين. ومن بين من عمل معه في ورشته المرحوم المهدي المدني الذي أصبح بعدها من كبار مكانيكيي الديزل في بنغازي.
أدار ورشته منذ الأربعينات وإلى أن تحوّلت عام 1966 إلى مطعم علاء الدين الذي كان يقدّم صحون (الكبدة) الشهيرة. ومن جيران والدي الأستاذ محمود السعيطي الذي كان رسّاماً شهيراً ومدرساً للرسم في مدرسة البركة، كنّا نحن الصغار نسترق النظر من نافذة بيته لنرى رسوماته الرائعة التي طبعها على حيطان الـ"مربوعة"، قِطَع فنيّة فاخرة ظهرت لنا وكأنها لوحات لليوناردو ديفنشي، قطع تسرق نظر المارين بالشارع.
ومن جيران والدي في ورشته كان عيت الأثرم والطيرة والمكحّل والسلاّك وشتوان وانبيّه، ربطتهم علاقة وثيقة كونهم خُدّام زرّوق (أي من نفس الطريقة الصوفية)، كما كانوا يصوّتون معا لنفس المترشّح لمجلس النوّاب في عهد المملكة. ومن الجيران أيضاً التمرجية مارية اليونانية أوالمالطية التي كانت تتنقل بدرّاجتها الهوائية لتزور المرضى في بيوتهم لتعطيهم الحقن الطبية، كانت مشهورة بدقة مواعيدها وكانت تأخذ خمسة قروش للحقنة، تضع درّاجتها أمام البيت المقصود وتُكمل سيجارتها أمامه ثمّ ترمي ما تبقّى من السيجارة قبل أن يُفتحَ لها بيت المريض؛ إذ كانت لا تدخل أي بيت وسيجارتها "والعة". ولا ننسى متجر حمي بوزعكوك مؤيد نادي الهلال الشهير الذي كان يصاب بالحُمّى إذا ما خسر فريقه نادي الهلال، أمّا إذا ربح فكان يستبق المتفرّجين فيفتح دكّانه ولو لدقائق كي يشمت في الخاسرين ويعزّرهم على فشلهم.
كل هذ الحكايات لوالدي وحكايات أخرى غيرها تجري في مخيلتي كلما زرت ودرت بالبركة الآن، وكلما تذكرت أمنية والدي الأخيرة في جولة في الحي الذي أحبه، ورغم الأسى الذي مازلت أشعر به لأنني لم ألبِّ أمنيته أشعر أيضاً بأن والدي بات قريباً مني وأنا أتجول في حيه القديم، كأنني أرى الحي بعينيه وأتذكر ما كان يحتفظ به من ذكريات.
مواليد بنغازي، عمل بالإذاعة الليبية بنغازي ودرس الإعلام بكلية كاليفورنيا للفنون. كتب العديد من المقالات على موقع ليبيا المستقبل وليبيا وطننا. أستاذ اللغة العربية لغير الناطقين بإنجلترا.