هوايات أمي

"عزة كامل المقهور"

لم تكن سوى أمي، توزع ابتسامتها علينا بالقسط، نمسك بذقنها لكي تلتفت نحونا، وحين يشتد عليها الخناق تحرر رأسها وتنهض ضاحكة. صوتها جميل، تغني مقاطع لأم كلثوم وعبد الوهاب وشادية، ننتبه ونتنصت لكنها سرعان ما تنهيها ضاحكة. وأنا طفلة لم أنم ليلة دون أن تغني لي.

قليلة الخروج إلا بنا، تهتم بشغف بهواياتنا، تنميها وتوفر كل ما يوطنها فينا؛ حرصت على دروس البيانو منذ صغرنا حتى لانت لرفض بعضنا في سن المراهقة مواصلة هذه الدروس.

تقفز الحبل وتلعب معنا الطائرة والسلة وكرة الطاولة، وترمي بقرص الحلقة البلاستيكية الطائرة. أخذتنا مشياً في "قرقارش" واشترت لكل منا دراجة حديثة وتركتنا ننطلق بها إلى البيت.

عاشقة البحر التي رأت النور في الإسكندرية ولعقت أملاح جسدها كالقطة، ثم انتقلت إلى موطنها الأصلي طرابلس حيث يتنفس البحر ويطلق زفراته، لم تسكن إلا إلى جوار البحر منذ أن اقترنت بوالدي، تقضي معنا الصيف على الشاطئ وتسبح كالبجعة مع فراخها في الصباح الباكر.

ذات شتاء قررت أن نمارس الصيد بصنارات أحضرها والدي بأمر منها، أخذنا " قصباياتنا" التي تجاوزتنا طولاً تتدلى منها خيوط بلاستيكية متينة. على الشاطئ أشارت نحو الصيادين وطلبت أن نتعلم منهم، أعطيناهم الخبز الذي جهزته لنا، بلله الصياد وعجنه بأصابعه ثم ثبته على الشوكة المعدنية وأرانا كيف نقذف بحبل الصنارة في الماء وننتظر. كل مرة تختفي قطعة الخبز دون سمكة، حتى كانت الرمية الخاطئة التي انتهت بغرس الشوكة في سبابة أخي، سال الدم وركضت أمي نحوه كالغزالة تقفز فوق الصخور.

لم نكرر رحلة الصيد، لكننا قضينا صيفنا مغمورين في الماء نتفاخر بنزع قشور جلودنا المحروقة، أما الشتاء فتجوبه معنا بين الصخور بحثاً عن القواقع وسرطانات البحر "الباغليات" التي تخرج من ثقوب الصخور مسرعة مع كل موجة وتختفي عند انحسارها. علمتنا كيف نأكل محار البحر؛ نزيح عنه الرمل بالماء ونكشف عنه غطاءه ثم نبتلع ما في جوفه بطعمه المالح.

 

أعظم هواياتها كانت الرسم، توفر لنا الأقلام والألوان وتدعونا لنجلس تحت الأشجار وتحثنا على الرسم. وفي كل بلاد زرناها تحرص على عدّة الرسم وممارسته في الحدائق وقاعات المتاحف، ونبهتنا لجمال شرفات المباني وزخارفها. أخذتنا إلى المتاحف الشهيرة (اللوفر، ميتروبوليتان، متحف الفن الحديث (موما) وغيرها)، وصافحنا لوحات سيزان وفان غوخ وبيكاسو وغيرهم، وعرَّفتنا على مدارسهم. أوقفتنا أمام الموناليزا وشرحت لنا سر ابتسامة السيدة التي رسمها دافنشي، وبعد جولتنا في المتحف كانت تأخذنا إلى متجره وتطلب منا أن نشتري لوحة تقليد للوحات التي أعجبتنا ثم تعلقها في غرفنا. كانت تقرأ شخصياتنا وتسبر غورها من خلال اختياراتنا للوحات.

وجاء يوم قرر فيه والدي أن يطلي جدران بيتنا المجاور للبحر، جمعتنا أمي وملامح وجهها ناطقة بأمر ممتع وقالت هامسة وكأننا بصدد القيام بأمر خفي: "سنرسم معاً على جدران أكبر غرفة في البيت".

 

أتت بالألوان وتركتنا نختار الجدار الذي نريد واختارت جدارها وبدأت، كان الأمر صعب التصديق، شعرنا بحرية كاملة؛ لم نكن نرسم بقدر ما كنا نمارس تحدياً بطيب خاطرها. يومها رسمت أمي أجمل لوحة (أماً تحتضن طفلاً) ولونتها. لا أتذكر ما رَسَمتُ أنا، لكن أذكر كأنني حلَّقت دون أجنحة.

جاء الطلاؤون بعد يومين أو ثلاثة ولم يصدقوا ما رأوا، وقفنا إلى جانبهم نشاهد علامات الدهشة. نطق أخي الأصغر وهو يشير إلى رسم أمي على الحائط: "هذه رسمة ماما"، ولم يصدقوه.

 

هوايات أمي ألقمتني الحرية، حركت في وجداننا الخيال، ونسجت شباكاً من الحب بيننا، وأسكنتنا جزيرة ممتعة لنا ولها. لم ننتبه إلى أننا لم نفسح لها مساحة خاصة بها؛ لكنها مارست عبرنا ومعنا هواياتها.

مواليد طرابلس. درست القانون بجامعة بنغازي، ثم تحصلت على درجة الماجستير في القانون الدولي من السربون. محامية وعضو في المجلس الوطني الليبي لحقوق الإنسان. وصدرت لها عدة مجموعات قصصية.

عزة كامل المقهور
القصة التالية
في بيتنا راديو
القصة السابقة
الجزيرة العربية في صبراته