"عطية صالح الأوجلي"
عندما كنا صغاراً كانت العديد من الأشياء من حولنا تنمو ويكبر حجمها مع مرور الوقت. كانت الأحياء والأجساد والمباني ووسائل النقل كلها تزداد ارتفاعاً وعرضاً ووزناً، إلا جهازاً واحداً مهماً وحيوياً كان يتناقص باستمرار؛ كان ذلك جهاز الراديو.
فأول جهاز للراديو دخل بيوتنا تم حمله بوقار واعتزاز وفرحة من أفراد الأسرة ليستقر في "مربوعة" الحاج، الذي احتكر بالطبع حقوق استخدامه وأعطى تعليمات صريحة وواضحة عمن يحق له لمس هذا الجهاز السحري المدهش. كان راديو "فيليبس" أشهر الماركات ودليل الجودة وحسن الاختيار، وبالرغم من كبر حجمه فلم نكن نسمع سوى الإذاعة الليبية.
كان التأثير الأكبر لإذاعتنا هو تشكيل الذائقة الفنية والثقافية للجمهور، فتعرفنا عبرها على شخصيات من أنحاء ليبيا وعلى تاريخ وثقافة وجغرافيا الوطن ورموزه؛ حيث قام بعض الأدباء والكتاب وأساتذة الجامعة بتقديم العديد من البرامج الثقافية. أذكر أنني كنت أتابع برنامجين أحدهما للدكتور علي فهمي خشيم والآخر للدكتور الهادي بولقمة، كما كانت للسيدة خديجة الجهمي مساحة راسخة في الخريطة الإذاعية وفي قلوب المستمعين. تنوع إنتاج الإذاعة ونما عبر الوقت وسمح من خلاله للعديد من الأصوات الشابة والشعراء والملحنين والعازفين والمذيعين بالتواصل مع جمهورهم والكشف عن قدراتهم ومواهبهم. كما تميزت الإذاعة الليبية بانفتاحها على العالم؛ إذ استمعنا عبرها إلى إبداعات من تونس ومصر والجزائر والمغرب ولبنان والعراق وسوريا والسودان، بل وحتى السعودية التي كانت آنذاك بحكم تكوينها قليلة الإنتاج الفني، فتعرفنا على فنانين وكتاب ومبدعين عرب وأجانب من خلال برامجها.
ولعل التأثير المهم الآخر الذي كان أيضاً مصدر متعة وافرة للجميع هو أن الراديو ملأ حياتنا بالموسيقي والغناء. كان الراديو رفيق الصباحات الباكرة بينما كانت الوالدة تعدنا للذهاب إلى المدرسة، تحسن من هندامنا او تلاحقنا بفرشة الشعر أو تدس ساندوتش في حقائبنا رغم ممانعتنا. لاحقنا الراديو بأغاني الصباح الثابتة؛ فيروز التي يعشق صوتها كبير المذيعين بالإذاعة تعلن:
"بكير طل الحب ع حي لنا
حامل معو عتوبي وحكي ودمع وهنا
كنا وكانوا هالبنات مجمعين
يامي وما بعرف ليش نقاني أنا
جايبلي سلام عصفور الجناين
جايبلي سلام من عند الحناين."
كما كانت للسيدة أم كلثوم حصتها بـ "يا صباح الخير ياللى معانا"، ولا أدري حتى الآن ما علاقة القمح وليلة عيده بصباح الإذاعة الليبية، ولكنها كانت تدعونا للمباركة والمشاركة أيضاً بصوت عبدالوهاب وهو يشدو: "القمح الليلة ليلة عيده، يارب اتبارك واتزيده".
وعند خروجي وأخي من البيت في الطريق إلى المدرسة تختلط بطريقنا روائح السحلب الساخن مع الأنغام المتسربة من مذياع المقاهي التي تدعو فيها إحدى المطربات إلى صب القهوة وإلى زيادة الهيل وركوب الخيل، فنمد الخُطا منعطفين عند شارع البعجة متجهين نحو مدرسة توريللي ونحن نردد في أذهاننا كمية لا بأس بها من أغاني الصباح، ونضيف لها من قريحتنا الغضة، حالمين بأن نجد أبواب المدرسة مغلقة بالشمع الأحمر فنرجع إلى بيوتنا فرحين جذلانين نردد بأعلى صوت لنا: "ما جيناك إلا من العازة، نبو سبع أيام إجازة".
مرت سنوات قبل أن يطل علينا جهاز راديو ومعه جهاز " بيك أب" الذي يقوم بتشغيل الأسطوانات من حجم 33 لفة، وكانت الماركة هذه المرة "جروندينج" الألمانية. تم وضعه في حجرة استقبال الرجال التي تغير اسمها من مربوعة إلى "صالون"، وأذكر ذاك اليوم المفرح عندما قام الوالد رحمه الله بتشغيل أسطوانة للقارئ المرحوم محمود الحصري وسط إعجابنا ودهشتنا وفرحتنا، وشيئاً فشيئاً بدأنا نسمع الأغاني التي كانت بالطبع مصرية، وانتظرنا وقتاً لا بأس به قبل أن يعمنا الفخر بسماع أول أسطوانة ليبية للمرحوم محمد صدقي.
مواليد بنغازي، كاتب وباحث ومترجم ووزير الثقافة في المجلس الانتقالي. يكتب مقالات تحليلية في المواقع والصحف المهتمة بالشأن الليبي. صدرت له مجموعتان قصصيتان: “عيون الكبرياء”، 2007، و”ليلة المكالمات الغامضة”، 2008.