عازف الترمبت

"علي عبد اللطيف احميدة"

ولدت في ودان في 25 نوفمبر 1953 وعشت معظم طفولتي فيها. في أوائل الستينات نُقل والدي إلى سبها عاصمة الجنوب الليبي وعُين موظفاً في ادارة محاكم  ولاية فزان. في سبها صار لنا منزل حديث بالكهرباء في حي المنشية البيضاء، وهناك وجدت نفسي في مدينة ناشئة بها الاندية والكشافة والمكتبات والمقاهي ودار العرض الوحيدة في الجنوب (سينما الاتحاد).

كان لسبها جو حداثي حضري مميز بالإضافة إلى جالية عربية وأجنبية مثقفة، خاصة أصدقاء الوالد من القضاة والمحامين ورجال النيابة الذين كان يدعوهم لبيتنا وكنت أتحدث إليهم وأناقشهم. وهنا لا بد أن أذكر أن هناك فقراً معرفياً وجهلاً بالجنوب الليبي لدى الفئات المثقفة في الشمال، سواء في الشرق أو الغرب. الجنوب كان مهماً وكانت له تركيبة حضرية وبدوية وزراعية مركبة، بالإضافة إلى التسامح الاجتماعي المميز بين الفئات الإثنية والقبلية المتعددة التي كانت أصولها تعود لكل أنحاء ليبيا وبلدان الجوار.

 

بدأت الدراسة في مدرسة سبها المركزية وهي أقدم مدرسة في الجنوب، سجلت في الفصل الرابع وكنت أصغر الطلبة. كان معي العديد من الطلبة العائدين من المهجر، بالذات من تشاد والنيجر، وكانوا يكبرونني سناً. كنت أمشي خمسة كيلومترات للمدرسة التي سبقني إلى الدراسة فيها عبد السلام جلود ومعمر القذافي وغيرهم. لم أكن طالباً متفوقاً، وكان العقاب الجماعي بالضرب والتخويف هو السائد في الثقافة الليبية حين ذاك، ولكن كان هناك بعض المدرسين الذين أثروا معرفتنا مثل الأستاذ علي الرحيبي الذي كان يقرأ لنا الصحف والمجلات التي اقتناها.

في نهاية المرحلة الابتدائية ذهبنا لرحلة مدرسية فقضيت مع بعثة الطلبة شهراً في مصيف جليانة ببنغازي، ثم زرنا الجبل والبيضاء ودرنة، وكانت هذه الرحلة هي الأروع في طفولتي. ثم رجوعاً لسبها في مدرسة علي بن أبي طالب كان أهم أساتذتي الأستاذ أبوالقاسم قديح الذي جعلني أحب الأدب واللغة، وكان قائداً في الكشافة يحسن الغناء الموسيقيّ. في الكشافة أيضاً سافرت لمعسكرات صيفية في طرابلس وبنغازي وتونس والجزائر والمغرب؛ حيث كنا ضمن البعثة الليبية، وتعرفت خلالها على شباب من جيلي من جميع أنحاء ليبيا حيث كنا نعيش على حبها كوطن في أغانينا ومعسكراتنا، ونشعر بأننا ننتمي لوطن اسمه ليبيا هو جزء من المغرب العربي والعالم العربي.

أما هذه الصورة فهي لفرقة سبها الإعدادية الموسيقية في عام 1968.

أنشأ هذه الفرقة المتميزة الأستاذ المصري فاروق الذيب في منتصف الستينيات، وجاء هذا الأستاذ الموهوب من مدينة الإسكندرية بعد أن تقدم لمقابلة مع مسؤولين من ولاية فزان الذين جاؤوا لمصر لاختيار أستاذ موسيقى ليعلّم ويكوّن فرقة شرطة موسيقية في مدينة سبها في نهاية الخمسينات. وبعدها طلب مديرو التعليم في ولاية فزان حينها من الأستاذ فاروق تأسيس فرقة طلابية وتعليم الأولاد الموسيقى خلال المرحلة الإعدادية، فاختار الأستاذ عشرين طالباً، وعلمهم السلّم الموسيقي والعزف على الآلات النحاسية. وشيئاً فشيئاً بدأت هذه الفرقة في التميز والقيام بالمشاركة في الحفلات والمناسبات العامة في سبها، وأخيراً في العاصمة طرابلس، كانت هذه الفرقة الوحيدة التي عزفت الآلات النحاسية، ومعظم الأناشيد التي عزفتها تشمل الألحان العربية والغربية.

ونرى في هذه الصورة التي التقطت للفرقة عام 1968 القيافة والانضباط والانسجام وحسن الهندام، كذلك نرى الطالب آنذاك علي عبد اللطيف حميده عازف الترمبيت وقائد الفرقة.

أين نحن الآن من الموسيقى والإبداع والوئام؟

بقدر ما توحيه من حسرة فإن هذه الصورة تعطينا الأمل وتقول لنا: نحن لا نبدأ من الصفر، وإن الإرادة والمحبة تستطيع أن تدلنا على تجاوز المحن والتعافي من الجراح والحروب، وتعطي الأحياء فرصة أخرى.

مواليد ودان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيو إنجلاند بالولايات المتحدة الأمريكية. له العديد من المؤلفات عن تاريخ ليبيا والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية فيها. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “الإبادة الجماعية في ليبيا” (2021).

علي عبد اللطيف احميدة
القصة التالية
قلعة الطفولة
القصة السابقة
الطريق الذي أخذه الطفل