"فاطمة سالم الحاجي"
كان الوقت مساءً، يرافقني الأديب يوسف القعيد الذي رتب اللقاء مع المرحوم الروائي جمال. كان نجيب محفوظ جالساً يتأمل المكان في عوامته التي تداعب مياه النيل الذي أحبه كثيراً. تتسارع خطاي متلهفة للوصول إلى مقامه، اقترب منه الأستاذ جمال وعلا صوته يقدمني: "هذه الناقدة فاطمة الحاجي من ليبيا التي حدثتك عنها". مددت يدي المرتجفة بسعادة لأصافحه، فمد يداً نحيفة رسم الدهر عليها وشم العظمة. نظر لي متفحصاً بعينين غائرتين تتحديان ضعفهما وأفصح بصوته الذي نشر حولي سياجاً من الغبطة: "أهلاً فاطمة، تبدين جميلة مثل نساء الثلاثية". كنت أمنّي نفسي فقط أن أزور قهوة الفيشاوي التي كان يجلس فيها وهو ينسج رواياته، فها أنا أجد نفسي وجهاً لوجه معه، يا لكرم الأقدار!
أمام حدث مفاجئ أصبح الوقت خارج المكان، ومع غروب آخر شعاع للشمس تبخرت الرهبة واستجمعت ما تناثر مني، وقفز لذهني سؤال عبرت له عنه وسألته: "ماهي مشاعرك الآن تجاه هذه المراكب التي تعبر النهر؟". التفت إلى الأستاذ جمال مستفسراً عما قلت، و شرح له الأستاذ جمال سؤالي لكن ليس بالطريقة التي أردت التعبير عنها. التفت الأستاذ نجيب إلى النادل الذي وصل يحمل صينية الشاي، أمره أن يقدم لي الكوب أولاً. يا لتواضعك يا سيد الرواية! ويا لكرم العباقرة.
لم يجب عن سؤالي بل التفت يحادث الأديب يوسف القعيد الذي اتخذ مجلساً محاذياً له. ازدحمت الشخصيات الروائية فتمثلت شخوصاً بيننا تشاركنا الجلسة مع هبوط الليل وفضاء العوامة.
تأملته وهو ملتفت، وتساءلت كيف انكمش هذا الجسد وأصبح نحيلاً بنظرته المنعزلة داخل حدقتي عينيه الغائرتين؟ كيف لي أن أحظى بإجابة من الهرم الرابع فهو نجيب محفوظ الذي يحمل مؤتمر الرواية اسمه احتفالاً بمرور عشرة أعوام على نيله جائزة نوبل للأدب، وها أنا في حضرته مشاركة في هذا المحفل الكبير باسم ليبيا. التفت وسألني عن دراستي للزمن، تلعثمت وأنا أحاول أن أستجمع أفصح عباراتي. حوّل نظره إلى المراكب العابرة من حولنا قائلاً: "الزمن يخفي عنا وجه الموت، وهو قناع زائف مثل هذه المراكب التي تنقلنا إلى حيث لا نريد". أدركت الإجابة عن سؤالي السابق بطريقة مختلفة عما تعودت عليه من الإجابات النمطية المباشرة. أخيراً قررت أن أتجرأ بطلب أخذ صورة معه.
لم يرفض طلبي ولكن طلب عدم استعمال ضوء" الفلاش، لم يعد في حاجة إلى الضوء وكل هذه الأنوار تحيط به من كل جانب.
لم أنشر الصورة في حينها لأنني لست من المولعين بالشهرة، ولكنها كانت من الصور المحببة إليَّ جداً، بعد أن نجت بأعجوبة من السرقة. كانت الصورة تنام قريرة العين في جهاز هاتفي الذي تركته في البيت حين تعرض منزلي للسطو وأنا في طريقي إلى تونس لإنقاذ زوجي فاقد الوعي بعد أن أصيب بجلطة حادة في إبريل سنة 2011. بعد مدة بحثت عن بعض أوراقي المخزنة في بريدي الإلكتروني وجدتها قابعة فحمدت الله على الرزايا وبعثتها لابنتي خوفاً من ضياعها، ولكن للأسف لاحظت أنها فقدت بريقها الذي كان قبل سرقتها. وفي كل مرة أنقلها إلى جهاز آخر طيلة غربتي خارج الوطن أكتشف أنها تفقد بعض الألق، حتى صارت حطاماً إلكترونياً بالكاد يحمل ذكرى لحظات خالدة في معناها.
كلما أنظر لهذه الصورة الآن أتذكر مقولة أستاذنا محفوظ عن الزمن؛ ذلك القناع الزائف الذي يخفي حقيقة الأجل، وأن الأيام مراكب تنقلنا إلى حيث لا نريد. أجل، الصورة باتت تروي قصة ضياع هويتنا وذاكرتنا، وما سعينا إلا أن نتشبث بما بقي منها لنترك شيئاً للخلود.
أكاديمية وروائية، عضو هيئة التدريس بجامعة طرابلس، صدر لها عدة أعمال نقدية منها “مفهوم الزمن في الرواية الليبية”، 1999، و”الخطاب الروائي”،2007، و روايتان “صراخ الطابق السفلي”، 2015، و “رحيل آريس”، 2022.