الخالة حليمة

"فاطمة غندور"

خالتي حليمة هكذا نناديها، مذ شهدنا أطفالاً أنها الأقرب إلى قلب أمي التي تركت - بزواجها من أبي- قريتها "قِقَم" التي تبعد ما يقارب ألفي كيلومتر عن العاصمة طرابلس، لتصير ربة عائلة كبيرة: زوج، وإخوته الثلاثة، ونحن أطفالها الستة. أمي حليمة مكمن سرها واستشارتها خالتنا حليمة، فتحنا عيوننا على نزولها ببيتنا، وعلى جلساتها الحميمة مع والدتي عند عالة الشاهي؛ سيدة جميلة أنيقة رقيقة الملامح، نحبها ونتقافز فرحاً حين تزورنا.

تحضر بحقيبتها المُرتبة بشكل ملفت، وكأنها خبيرة تهندس قياسات الحجم والمساحة! قفاطينها في ركن وأرديتها ممددة على راحتها، صيفاً أمتار من قُماشة خفيفة تبزغ زاهية بألوانها المحببة: السُكري، نوار العشية، والبودري، دم الغزال، الحني، والخضوري، والفيروزي، والرداء الشتوي المخطط "حولي اللانة"، وعلبة صغيرة مزركشة بها قطع من الذهب. وفي ركن حقيبتها كيس حلوى مؤجلة لمن يحرز سلوكاً يعجبها في مساعدة والدتنا، أو حين نخرج لنشتري لها ما تحتاجه.

تقيم بيننا أياماً أو أسابيعاً، أو أطول في مناسباتنا، تخطط معنا ما نجهزه من حلويات ، وتبدي نفورها مما لا يواتي تقييم عينها وميزان تدبيرها. وكان أكثر ما قربني إليها ذلك البراح والمرونة في موقفها ورأيها، فتناصرني حتى في زلاتي بجملتها: "العُمر نهبه، خلي افطومة في حالها يا وخيتي حليمة."

لما كبرت واشترى أبي لنا سيارة، كنتُ ألجأ إليها وتعلم عائلتي أن لا مكان أتأخر فيه عنهم غير بيت خالتي حليمة. إرثها من زوجها (بيتها العربي) بشارع الساعدية بميزران العابق بالألفة، أمد يدي لأطرق بابها بتلك الأيقونة " الخميسة"، بوسطه بئر ماء أكثر أمانا من بئر بيت جدي بقريته الجنوبية. سقف البيت عالٍ تخصهُ الشمس بإشراقة باذخة، شبابيكه بعضها على الزقاق وبعضها داخلي وأسفلها محابس غرست فيها ورداً عربياً، وودينة، وصباراً.

وكم كنت أتلذذ بطبخها؛ تعده بتنميق عجيب. أتأملها حين تعد شربتها العربية، الكسكسي، طبيخة الفاصوليا، أما سَلَطُتها فتحيرني بتساوي وتوازن ما تقطعه من خضارها: الطماطم، والخيار، والبصل، وكمشة المعدنوس. وتتبيلتها التي تتنسجم فيها قطرات الليمون، وملعقتا زيت زيتون، ورشة من الملح والنعناع الجاف، وتكرر لي بالتوقف حين أمد يدي لمساعدتها.

في الصورة بتاريخ 28-12-2004  كانت في سنها الثمانيني، ألحت على حضور مناقشة رسالتي للماجستير بجامعة طرابلس، وقبلها سايرت أخواتي وزوجة أخي في تجهيزهم وجبات من الحلو والمالح للحضور.

كانت قد مضت سنة على تعرضها لحالة حريق بظهرها، إذ انقطعت الكهرباء ببيتها فذهبت كعادتها إلى شمعاتها، وأوقدت إحداها ووضعتها بركن وسط البيت فاشتعلت في ردائها من الخلف دون أن تنتبه. حاولت إطفاء ما استطاعت والنار غالبة، وأثرت على مساحة كبيرة من ظهرها. رافقتها بمستشفى الحروق والتجميل، حدثني طبيبها عنها متعجباً من نتائج تحاليلها الإيجابية، وخاصة ما تعلق بقياس ضربات القلب ومعدل دمها. دخلت العملية ولن أنسى خوفي وقلقي يومها إلى أن خرج الطبيب ليبشرنا بإستجابة جسدها ونجاح العملية، ومنذ ذلك التاريخ صرنا نغلبُ عنادها، حتى محبة وعون جيرانها الطيبين، بقرارنا أن لا مبيت وحدها.

في بيتنا يوم وفاتها -بعد يومين من تاريخ هذه الصورة- اتصلت بي قبلها قريبتها وأعلمتني برغبة خالتي حليمة أخذها لبيتنا، بعد أن أحست بألم في قلبها وأُدخلت لعيادة وأجرت فحوصاً. في سيارتي كانت تتحدث معي بروح منشرحة، لم يفارقها هدوءها ولا ابتسامتها؛ قالت لي: "قلبي لم يعد يحتمل، وهذا الشتاء قاسٍ". فبادرتها مشاكسة: "مثلك من غالبت الحياة لا يغلبها الشتاء"، فضحكت ولممت "فراشيتها" حولها، وقالت: " يابنتي، ليلة قبرك ما تباتهاش برا، وعشت من حياتي بما أحب."

في وحدتي "الكورونية" مؤخراً كانت روحها معيني وسندي؛ في أن أكون بِحِلمها وحُلمها في الحياة: خالتي حليمة.

مواليد طرابلس، كاتبة وباحثة، أستاذة بكلية الفنون والإعلام، جامعة طرابلس، صدر لها عدة كتب منها “الحكاية الشعبية الليبية.دراسة سوسيولوجية”، “حاملات السر ( راويات براك.الشاطي)” و”محمد الزواوي متعة السخرية.”

فاطمة غندور
القصة التالية
صورة وذكرى
القصة السابقة
حارس الوادي