"فتحي نصيب"
أخذت هذه الصورة عام 1972بمسرح صبراتة الأثري في رحلة مدرسية تشمل حوالي 80 طالباً وطالبة للمتفوقين بالمرحلتين الإعدادية والثانوية لكل مدارس المنطقة الشرقية ولمدة أسبوعين، وكنت وقتها طالباً بمدرسة الأحرار الإعدادية ببنغازي.
وقد دأبت الحكومات الليبية المتعاقبة في العهد الملكي على تنظيم رحلات طلابية بين المدن المختلفة، وكذلك ما كانت تقوم به الحركة العامة للكشافة والمرشدات من مهرجانات بكل المناطق والفروع بهدف التعرف على ربوع الوطن وترسيخ الروح الوطنية.
كان مركز التجمع والانطلاق أمام مدرسة الحرية للبنات، وكان المسؤول العام المرحوم سليمان الضراط والأستاذة اوريدة المسؤولة عن الطالبات في حافلة وسيارات عبر الطريق البري، كانت أول زيارة لي إلى المنطقة الغربية وأظنها كذلك لمعظم الطلبة والطالبات.
أقمنا نحن الشباب بمعهد (هايتي) المتفرع من ميدان الجزائر في حين نزلت الفتيات في مكان آخر، لكن برنامج الزيارات كان جماعياً.
من المعالم التي زرناها: مصنع النسيج بجنزور ومصانع قدّح للكراسات والصابون والحلويات والخبيز، وأذكر أن صاحبها (مفتاح قدح) أهدى كل منا كيساً يحوي منتجات هذه المصانع.
ولأول مرة أزور آثار لبدة وصبراتة حيث أخذت هذه الصورة الجماعية لمسرح صبراتة الروماني المكون من ثلاثة أدوار، والمرجح أنه بني في عهد الإمبراطور (كومودوس 162-92م).
بالنسبة إليّ كانت هذه الرحلة مدهشة وجميلة وعصيّة على النسيان؛ فهي زيارتي الأولى إلى العاصمة حيث أخذت بها من حيث نظامها المروري واتساع ونظافة شوارعها وتناسق حدائقها ومعمارها، وعلى نحو خاص قلب المدينة حيث السراي التي تضرب جنباتها مياه البحر المتوسط وساحة الشهداء التي تتفرع منها عدة شوارع على هيأة أشعة الشمس.
كانت طرابلس وقتها عروس البحر المتوسط، لا تنافسها إلا الإسكندرية وبيروت في الجمال والعراقة والحداثة، حتى يخيل إليك أنك في أرقى مدن أوروبا، مع احتفاظها بالملامح الشرقية في اللباس واللغة والسلوك.
كنت وبعض أصدقاء الرحلة نذهب في إحدى جولاتنا الحرة لتناول وجبة بمطعم (ديمتري للبيتزا) بشارع هايتي، أو إلى أحد المقاهي حيث تقدم كل أنواع القهوة العربية أوالتركية أوالغربية، والشاي المطعم بالزهر، والمثلجات بنكهات مختلفة وعصير الفواكه. كنا نجلس أمام السراي والبحر ونستمع إلى الراديو أو جهاز الأسطوانات بالمقاهي لأغاني محمد صدقي وعبد اللطيف حويل وسلام قدري.
عرفتُ سوق المشير والمشغولات الفضية بسوق القزدارة، ومحال البسط والفرش التي تشبه سوق الظلام والجريد في بنغازي.
الذكرى الأجمل والأهم هي المعاملة الودودة المرحبة في أي مكان ذهبنا إليه بعد أن يتعرفوا علينا من خلال لهجتنا الشرقية.
كانت أمسيات طرابلس عند الأصيل تبدو لي الآن كحلم جميل وبعيد، الفتيات في الشوارع والنساء بالفراشيات آمنات من أي تحرش ولو تجرأ أحدهم فستجد من يردعه فوراً، والسيارات ملتزمة بالسرعة المحددة، وباعة أطواق الفل والياسمين، كان الناس وقتها رغم بساطة الحال في أهنأ بال.
كونت صداقات عديدة مع رفقاء الرحلة التي استمرت بعدها لسنوات، إما باللقاءات أو بتبادل الخطابات وما سجله بعض الطلبة والطالبات من كلمات في (أوتجراف) مازلت أحتفظ به حتى الآن، وأذكر من بينهم القائد الكشفي سليمان الضراط (يظهر أعلى اليسار في الصورة المرفقة) الذي رحل عن دنيانا بعد ذلك بعام في سن 35 حين ناداه ضميره الحي فهب رفقة آخرين لإطفاء حريق شب ببيت في شارع اقزير؛ أنقذ الأسرة ودخل مرة ثانية للبحث عن أحد الأطفال، إلا أنه توفي ليضرب مثلاً في التضحية والفداء.
مواليد بنغازي، قاص وكاتب. أدار تحرير عدة صحف ومجلات ليبية، كما أعد برامج أدبية بالإذاعة الليبية. صدر له عدة مجموعات قصصية منها: “المد” و”مرايا السراب”، ومقالات فكرية وأدبية “مقاربات في الفكر والأدب”.