"فدوى بن عامر"
ترجع أصول جدتي لأمي خديجة زادة -رحمها الله- لجزيرة كريت، حيث قدم والدها مهاجرًا إلى ليبيا مع بدايات القرن العشرين عقب تصاعد العنف الطائفي ضد مسلمي كريت.
وكحال غالبية من هاجروا من كريت أتقنت جدتي لغتها الأم إلى جانب العربية، كما تأثرت تأثرًا كبيرًا بالعادات والتقاليد القريتلية والليبية فكوّنت مع جيلها من القريتليين المهاجرين ثقافة ثالثة خاصة بهم كانت مزيجًا رائعًا من الثقافتين ازدانت بها الساحة الليبية الجميلة وازدادت تنوعًا وثراء.
جدتي حكاياتها كثيرة ولذيذة، نكهتها عبقة دومًا بالترف والبهاء، وارفة الظلال بمعانيها القوية ودلالاتها العميقة. من ضمن ما روت لي كانت حكاية عن صديقة لها قريتلية وجميلة للغاية، تصفها جدتي قائلة: "الأزرق محاجر عينيها ونور القمر وجنتاها، أما الشمس فتشرق بابتسامتها". كانت الصديقة تتحدث العربية بركاكة لقدومها حديثًا إلى أرض المهجر، وحدث أن تزوجها رجل ليبي (نغّار)، بحسب تعبير جدتي، وبالطبع لا خروج ولا زيارات ولا مقابلات ولا، لا، لا. فقط أنت ملكة بيتي، وأنت الملكة المملوكة في واقع الحال؛ لم يكن ذلك الحال مستغربًا جدًا فقد كان حال الكثيرات من جيلها تقريبًا.
وفي يوم من الأيام وبينما كان الزوج الغيور خارج البيت أطلّت الصديقة الجميلة من شبّاك الدور الثاني فرأت مجموعة من الشباب يصلحون عربة، وقفت تتأملهم دون أن تشعر أنهم ينظرون إليها، وفجأة بلغ (التستوتيرون) منهم مبلغًا عظيمًا فأخذوا في (التمجريد والتكشيك) والغناء والرقص. انفرجت أسارير القريتلية الشابة رغم ضعف فهمها لكلماتهم، ومن لا ينجذب لإيقاعات موسيقانا الشعبية الجميلة ومشاهد الرقص التقليدي البهي المصاحب للنغمات البديعة؟ وبينما هي في استمتاعها بالعرض المبهج والذي حسبته مجانياً إذ تناهى لمسامعها صوت بعلها الأجش يناديها، فهمّت مسرعة لملاقاته خشية أن يحدث ما لا تحمد عقباه إن رآها أمام الشباك؛ إلا أنها لم تتمكن من ذلك فقد أطبقت قضبان القفص الحديدي للشبّاك على رأسها ولم تستطع إخراجه.
وبعد هنيهة دخل البعل الغرفة فوجدها في السرير معصوبة الرأس منهكة وشاحبة، فسألها (واهقًا) بتعبير جدتي عما بها، فأذابته بعينيها الجميلتين وقالت: "والله يا حاج من الصبه صداا قوي مش قادر أنا أوقف". فأخذ منه دلالها كل مأخذ فهي الزوجة وهي الحبيبة، وقام من توه مسرعًا لإحضار الدواء مقسمًا عليها في ذات الوقت عدم النهوض من فراشها حتى تشفى.
الذي حدث أنه عندما تعسّر عليها إخراج رأسها من بين القضبان الحديدية للشبّاك اضطرت لجذبه بقوة فتسبب ذلك برضوض على صدغيها، ومحاولة منها لإخفاء الرضوض كان لا بد لها من استخدام دهاء النساء فعصبت رأسها بسرعة وقفزت في أحضان سريرها متظاهرة بالمرض؛ فأفلتت بذلك من مصير كاد أن يكون مستطيراً.
مواليد بنغازي، حصلت على بكالوريوس وماجستير في الرياضيات ودرّست في جامعات في بريطانيا والبحرين. لها عمود صحفي بعنوان ركن العامرية وتقدم برنامج “مع فدوى” بقناة الوسط تجري فيه حوارات مع المثقفين والأدباء الليبيين والعرب.