"فوزية بريون"
كانت المدينة القديمة بطرابلس في القرن الماضي مركز الدنيا وقطب الحياة؛ فهي – تاريخياً - مركز حضاري ديناميكي، تحتضن شوارعها وأزقتها وحواريها أرومة العائلات الطرابلسية، وتضمُّ شوارعها وأزقتها وحواريها عشرات المساجد والأضرحة والكتاتيب والمدارس والزوايا العلمية والصوفية. تستعرض اكتفاءها الذاتي متاجرُها وحوانيتُها وأفرانُها، حمّاماتُها وعياداتُها ومستشفياتُها وصيدلياتُها، صنائعها ومصابغها وأنوالها، فنادقها ومقاهيها ومسرحها وسينماؤها، فرقها الرياضية والفنية، مكاتبها ومكتباتها ومطبعاتها وصحفها المتنوّعة. فيها مقرّ دار البلدية والمحاكم والقنصليات الأجنبية ومساكن القناصل، وتقطن في جنباتها جاليات مسيحية ويهودية. وفيها الكنائس والمعابد ونوادي الجاليات الأجنبية، مدينة تعجّ بالحياة وتتعايش فيها الأعراق والأديان والثقافات في وئام وانسجام.
وفي الجهة المقابلة لبيت الطفلة كانت مدرسة المدينة القديمة، تربت فيها وجالت قدماها الصغيرتان في أرجائها، إحدى صناديق العجائب التي استمتعت بفتحها، وإن سبقتها لمدّة قصيرة مدرسة طرابلس المركزية الملاصقة التي يدرّس فيها والدها؛ حيث كان يجلسها في فصل الأستاذ العارف التركي مع قريبتها سميرة اليازجي ابنة المدير، لتكونا البنتين الوحيدتين بين الأولاد.
انتقلت الطفلة بعدها إلى مدرسة البنات ببيئتها النسائية وبطابقيها وفصولها العديدة ومدرساتها الكثيرات وفنائها الواسع؛ حيث تميّز تعليم البنات آنذاك بكونة مهنة بنات العائلات العريقة، فكنت تجد أختين أو أكثر من عائلات الإزمرلي والقرمانلي والخوجة وسيالة وظافر وتنتوش ودقدق وحورية وتوفيق حمودة. كانت مديرة المدرسة المربية حلومة حورية ابنة الشيخ الشهير مختار حورية، وكانت أختها خديجة مدرسة معها. درّستني في تلك الفترة المربية سعاد سيالة أمد الله في عمرها مادة الرياضيات، وأذكر بالخصوص درس الكسور العشرية. وكان شقيقها محمد فريد سيالة قد أصدر عام 57 كتابه (نحو غد مشرق) مناصراً للمرأة وداعياً لتحريرها فأحدث ضجة في البلاد، وأذكر أنه قد عُرض في المدرسة فقمت بشرائه بمبلغ ستة عشر قرشاً في ذلك الوقت، وأنا في الخامسة الإبتدائية.
كانت المربية صالحة عرابي مدرّسةُ اللغة العربية تعجب بمواضيعي الإنشائية فتجلس بجانبي في المقعد لتراجعها معي فأشعر ببعض التميّز والقرب؛ خاصة وأن أختها كانت متزوجة من ابن عمة والدتي. أما العلوم فكانت للمربية زهرة الساعدي، التي ضاعت من ذاكرتي ملامحها إلا رتوشاً، وكانت المربية عديلة القرمانلي مدرسة التطريز والخياطة، ورغم كونها ابنة عمة والدتي إلا أنها لم تكن في العموم راضية بعملي؛ إذ كنت غالباً ما أنسى إحضار الإبرة أو الخيط أو حتى قطعة التطريز برمتها. وأذكر من المدرّسات اللاتي كن يزيّنّ المدرسة -حتى وإن لم يدرسنني- الأختين رقية ونعيمة دقدق، والأختين فخرية وأنيسة القرمانلي، ورفيعة سيالة، وفطيطيمة بالرحّال، ونديمة الإزمرلي، ونفيسة بن مولاهم، وغيرهن مما تبخل به الذاكرة.
ورغم توالي الأيام ما زلت أذكر صورة وشخصيّة المربية الرائدة السيدة جميلة الأزمرلي، كما كانت تنادى، وهي زوجة العالم عبد الرحمن البوصيري وكانت المفتشة العامة للبنات، وأظن أن مكتبها كان قريباً من مدرستنا فكانت كثيراً ما تتجول بين الفصول ناصحة مشجّعة، ولم تكن تدخل باب الفصل حتى يهب الجميع وقوفاً ترحيباً بها حتى تأذن لنا بالجلوس. كان حديثها هادئاً عميقاً، ترغّب في الاجتهاد وتوجّه لقراءة القرآن، وتوصي بالحياء والأدب. كانت قصيرة القامة، بيضاء البشرة مع حمرة، وكان شعرها أبيض، ترتدي الفراشية كاشفة عن وجهها، وكانت تعامل بكل احترام وتبجيل من المديرة والمدرسات والتلميذات. وكانت شقيقتها نديمة مدرّسة بالمدرسة نفسها، وترتدي غطاء الوجه الأسود الشفاف "البيشة".
كانت مدرسة المدينة القديمة إحدى العوالم السحرية التي كشفت لي آفاقاً مبهرة، ساعدتني على تشبيك الحروف، وقراءة الأقاصيص، واستيعاب المعاني، في سن كان فيها وجداني البض متعطشاً إلى المعرفة.
مواليد طرابلس، شاعرة وناقدة، تحصلت على الدكتوراه في الأدب من جامعة ميشيغان، نشرت قصائدها في العديد من المجلات والصحف الليبية والعربية، بالإضافة لكتابها عن مالك بن نبي وأبحاث أكاديمية عديدة نشرت في دوريات محكمة.