"فيروز العوكلي"
نرتدي ملابسنا المرتبة وأحذيتنا التي لم تفتح مقدمتها بعد، نتأنق بطريقتنا لأننا ذاهبون لنطل على المدينة. يحمل أبي كاميرته الجديدة ويتجول بنا في درنة ليلتقط لنا صوراً في أماكن تبين موقع المدينة الأخاذ.
نهاية التسعينات، سيارات قليلة وناس تتمشى أكثر، نقف على جسر الصحابة وسط المدينة وعلى "عقبة" المدينة ونطل عليها ونشير للأماكن التي نعرفها وتعرفنا: بيتنا، مدرستنا، دكاننا، شارعنا، في محاولة لامتلاك المكان.
هذا شارع أمر من خلاله لأحمل صحن الغداء لبيت جدتي، أعبر به زنقة مختبئة في روائح الغداء المتلصصة من نوافذ البيوت. أميز بعضها ويربك بعضها تسرب البخور من بيوت أخرى معلنة بذلك انتهاء وقت الغداء؛ فبخور الأزقة يعني إتمام "حوسة" الغداء والشاهي "الخضر" والاستعداد للغرق في القيلولة المهيبة.
هذا دكان يبيع "خبزة" ساخنة في الصباح الباكر يبعد عن بيتنا مسافة لا تسمح لرائحة الخبز الساخن أن تشاغب نهارنا، لكنها مسافة تحاكي الصباح بطريقتها.
مشاهد تصنع رائحة أخرى للصباح: عجوز تشطف الخريف من أمام البيت، رجل مسن يتكيء وأعوامه على عكاز وكيس خبز مجدول من السعف، سلة الجارة المربوطة بحبل تتدلى رقصا ليغمرها الصباح "بكم فردة خبزة وحكة تن وحكة حليب."
صغيرة كانت درنة صغر أحلامنا ودراجاتنا وأرجلنا الفضولية، هادئة لا تنسى يوماً أن تغرق في قيلولتها، لا متنزه ولا حدائق فيها، كانت كلها حديقة.
تعلمك منذ الصغر أن تطل عليها من الأعلى فيكبر في داخلك امتلاكك العاطفي للمكان، أو أن تكون في الأسفل ويطل عليك جبلها الحاني ليتلقف مخاوف طفولتك وشبابك ويرمي بها ما بعد الجبل.
في الصور تبدو واضحة جغرافية المدينة التي رافقت أول تساؤلات الطفولة عن نهاية الأرض وبدايتها، فكان الجبل والبحر.
مواليد درنة، تحضر الماجستير في الترجمة واللغة الإنجليزية ببنغازي. نشرت العديد من القصائد والمقالات الأدبية على المواقع الأدبية، منها بلد الطيوب وهنا ليبيا.