"كوثر الجهمي"
ظلت رحلات سفرنا برًّا إلى بنغازي من أجمل ما أتطلع إليه في العطلة الصيفية تسعينيات القرن الماضي، حين نقرر -كعادتنا- تمضية الصيف هناك حيث بقية الأقارب، والأهم من ذلك حيث بيت جدتي. رحلة السفر بالنسبة لي جزء من المتعة، أتطلع إليها أكثر من تطلعي للوصول، أتهيأ في اليوم السابق باحثة عمّا أُسلّي به نفسي في الطريق الطويلة، أجمع ألواني، أبحث عن كراس الرسم والتلوين الذي بقي مهملا لعدة أسابيع، أقلب خزانة المجلات القديمة، أبحث بينها عن الأقدم، وأحرص على التبكير بالنوم أبكر مما كنت أفعل أيام المدرسة؛ فالرحلة ستنطلق فجرًا وقبل أن تكتشف الشمس أمرنا.
في الصندوق الخلفي للمازدا العائلية يكدّس أبي بمساعدة أمي حقائب السفر وبعض لوازم النزهة، نزهة يعني طهواً على الحطب واللعب قليلاً ببعض الخردة، تسلق بعض الأشجاروالكثير من الهواء الحقيقيّ الذي نفتقده في المدينة، يصبح الأمر أكثر متعة حين يرافقنا في رحلتنا هذه إحدى عائلات أعمامي، أو أكثر.
يتكفل أبي بشرب آخر علبة حليب مفتوحة لم ننتهِ منها، فهي لن تبقى في الثلاجة بانتظارنا لشهرين، يُسمّي بالله ويتمتم بدعوات أخرى لم أكن أتبينها ثم يدير المفتاح، وننطلق.
في المقدمة بين قدمَيْ أمي ترقد حافظة طعام برتقالية قضتْ أمي نصف الليلة السابقة في تجهيزها، بدءًا بشطائر التونة والبيض المسلوق والمفروم (أو الدجاج)، والجبن وبعض الفواكه والخضروات وعلب عصير "اليوغا"، وانتهاءً بزجاجات المياه، في انتظار أن نبدأ جوقة الجوع. وكلّما اجتاز أبي سيارة عمّي أو العكس تبادلنا مع ابنة العمّ التلويح والحركات التي بلا معنى، متظاهرين بأننا التقينا صدفةً.
وعند منتصف المسافة تقريبًا بين طرابلس وبنغازي أجمل لحظات السفر؛ تُركن سياراتنا على جنب الطريق، تُطرح البُسط والحصائر ويُجهّز الشواء أو "المبكبكة" على الحطب أو الفحم. تحثنا أمي على الجري والمشي: "اطلقوا رجليكم" تقول، خوفًا على أقدامنا التي قد تتعقّد بسبب الجلوس في السيارة لساعات طويلة؛ إذ كانت تستغرق الرحلة كاملة حوالي اثنتي عشرة ساعة تتخللها ساعة الغداء، والكثير من "كم مازال كيلو على بنغازي؟".
اليوم أذكر تلك الرحلات بحنين جارف، متجاهلة الصعوبات التي كانت تُعكّر صفو الرحلة، كالقبلي الذي لا نملك تكييفًا بالسيارة يهوّن شدته، وخط الشمس الذي تصنعه متحالفة مع حجاب أمي على وجنتيها، أثر العرق على ياقة أبي وظهره وتشنّج قدميه، والطريق الخاوية من استراحات تليق بالعائلات، وخدماتها شبه المعدومة بدءًا من الحمامات القذرة، وانتهاء بشطائر الكبدة التي طلبناها مرة في واحدة من هذه الاستراحات وتحولتْ بقدرة قادر إلى شطائر "طبيخة فاصولياء"، مرورًا بزجاجات مشاريب "المرادة" و"السعادة" التي ترقد فيها -بسلام- جرادات لا أدري حتى هذا اليوم ما الذي دعاها للانتحارغرقًاً في تلك المشروبات الغازية.
لا يُبدّد هذه المشاق سوى لافتة مكتوب عليها: (بنغازي ترحب بكم)، ومدخل المدينة المحفوف على جانبيه بأشجار السرو المنتصبة بتواضع ترحيبًا بالزوار.
ازداد عدد الكيلو مترات اليوم، وصارت الرحلة البرية تستدعي لفة تشبه لفة جحا حين سألوه: "وين وذنك يا جحا؟"، والبوابات التي كانت خاوية على عروشها أو مستأنسة ببضعة رجال أمن نائمين زاخرة الآن برجال أمن خائفين، ازداد حتى عدد البوابات. وبدلاً من تهوين الرحلة على المسافر برًّا باستراحات عصريّة حديثة ازدادتْ الخرائب، وباتت الرحلة برًّا ضرورة لا ترفاً مع انقطاع الرحلات الجوية لأسباب تافهة؛ رحلة محفوفة بالخوف لا بالبهجة ولا مجال فيها للتنزه.
مضى على ذكرياتي هذه ما يقارب الثلاثة عقود، وأتساءل الآن: أمازالت لافتة "بنغازي ترحب بكم" وأشجار السرو قائمة بعزتها ووقارها المعهود، أم إنها أيضًا أصبحتْ مجرد ذكريات؟
مواليد طرابلس، قاصّة وروائية، ومدوّنة، شغوفة بالتاريخ والأدب. فازت روايتها الأولى “عايدون” بجائزة مي غصوب من دار الساقي، ببيروت، وصدرت لها مؤخرا رواية “العقيد”، 2022.