صورة زفاف مؤجلة

"ليلى المغربي"

هاجر جدي محمد عبد الرحمن الحجاجي مع شقيقيه من ليبيا إلى سوريا في أوائل عشرينيات القرن الماضي؛ هرباُ من تجنيد الإيطاليين للشباب الليبيين ليقاتلوا في صفوفهم ضد أبناء وطنهم، فمن الذين هاجروا اتخذ مصر أو تونس وجهة، وبعضهم اختار الابتعاد أكثر.

لم أعرف جدي فقد توفي في ريعان شبابه، لكن جدتي خديجة رمضان بن حليم كانت كثيراً ما تحكي لنا عن تلك الفترة، وخاصة أن المهاجرين الليبيين في سوريا شكلوا تجمعات عائلية ليخففوا وطأة الغربة في البداية، ولاحقاُ للمصاهرة فيما بينهم لزيادة الترابط والحفاظ على خيط رفيع يجمعهم ويترك في نفوسهم الأمل بالعودة بعد هجرة اضطرارية.

ورغم أن أبي ولد في سوريا لكن الدم يحن كما يقال؛ رغبة في الانتماء لوطن جذوره فيه وإن كان لم يعرفه. وقد يكون الحراك السياسي الذي اتسمت به الدول العربية في الخمسينيات جعل الكثير من الشباب الليبيين في سوريا يحلمون بالعودة إلى وطن جمَّلته في أعينهم قصص أهاليهم.

في سبعينيات القرن الماضي بدأ أبي مشروع العودة إلى ليبيا، كانت الخطوة الأولى للإجراءات هي صورة عائلية تجمعنا كلنا، مع بعض أوراق رسمية أخرى لتقدم للسفارة الليبية في دمشق، تأجلت هذه الخطوة مراراً إلى أن نفذها فعلياً بداية الثمانينيات.

كان لأبي وعمي شغف بالتصوير؛ أظنه راجعاً لفترة شبابهما في الستينيات، فهما من جيل مثقف ومنفتح يسعى لمواكبة التطور في العالم أجمع.  كان أبي يتجه إلى أستوديوهات التصوير في كل مناسبة، أما عمي فاشترى كاميرا في منتصف السبعينيات من روسيا أثناء بعثة دراسية هناك. وكم كانت سعادتنا كبيرة حين يأتي لزيارتنا وهو المقيم في مدينة أخرى، نركض إليه مسرعين متلهفين وسائلين متى يصورنا كي نتجهز ونتزين ونرتدي أجمل ملابسنا.

في أحد الأعياد اجتمعت عائلتنا وعائلات أعمامي وعمتي وجدتي لوالدي، وبدأ عمي بالتقاط الصور إلى أن انتهى الشريط؛ ولأن جدتي بدت مستمتعة جداً بجلسة التصوير طلبت منه أن يلتقط المزيد، وكي لا يحرجها أخذ يضغط على زر الكاميرا ليلمع الفلاش على الجالسين ورغم معرفتنا أنها مجرد وميض ضوء، وهكذا بقينا جالسين لبرهة من الزمن.

بعض صور العائلة كانت محفوظة في ألبومات، وحين فاض كمها كدستها أمي في صناديق مصنوعة من الخشب و مرصعة بالصدف الموزاييك.

حقق والدي حلمه وعدنا إلى ليبيا سنة 1984،  شعرنا في البداية باختلاف كبير بين ما اعتدناه وما واجهناه من عادات وتقاليد؛ فوجدنا صعوبة لكي نتمكن من الاندماج في مجتمع يفترض أننا منه، ابتداء من اللهجة السائدة التي كانت صعبة الفهم في البداية واحتجنا بعض الوقت كي نتعلمها ونقنع من حولنا أننا ليبيون مثلهم، رغم بعض الاختلافات في نمط الحياة والأكل والملبس.

لم تكن تخلو جدران منزلنا من الصور المنتقاة بعناية التي تم تكبيرها و وضعها في إطارات خشبية مذهبة، حجم الصور بحسب أهمية الصورة ومن فيها وفي أي غرفة علقت.

أبي وأمي لم يحظيا بصورة زفاف كالكثير من جيلهم لهذا أراد أبي لاحقاً أن تكون لهما صورة بديلة عن تلك، فذهبا إلى أستوديو تصوير في دمشق منتصف الستينيات. كبَّر والدي الصورة وعلقها على أحد جدران غرفة النوم، إذ لا يليق أن تعلق صور النساء في غرف الضيوف، لا في ليبيا ولا في سوريا وهي عادات مجتمعية لا يمكن تجاوزها.

حين عدنا إلى ليبيا أصرت جدتي على الاحتفاظ بتلك الصورة الكبيرة؛ ولأن والدتي كانت تعتز بتلك الصورة أيضاً احتفظت بالصغرى منها دون تكبير ووضعتها في إطار صغير قرب سريرها. كنت كلما دخلت الغرفة أحمل الصورة وأطيل النظر إليها وأطلب من أمي أن تعيد لي حكاية الصورة، صورة الزفاف المؤجلة.

مواليد سوريا، كاتبة وصحفية ومدربة في مجال الصحافة وحقوق الإنسان، صدر لها مجموعتان قصصيتان.

ليلى المغربي
القصة التالية
غابُ الرومانسيين
القصة السابقة
أجمل لحظات السفر