"محمد ذهني"
مرت مسيرتي التعليمية، من الابتدائي إلى الدكتوراه، بست مراحل كل منها كان في مدينة مختلفة؛ مما أغنى تجربتي الدراسية. مدن ست تضافرت على تكوين مداركي وتشكيل توجهاتي الفكرية والإنسانية، وقد أضافت كل منها على طريقتها ومعطياتها الخاصة خيوطاً وألواناً إلى نسيج حياتي. مدن ست توزعت بين ثلاث قارات وتباعدت بينها المسافات بالغةً بين أدناها وأقصاها خمسة عشر ألف كيلومتر، وكما تباعدت المسافات فقد تناثرت بينها سنوات العمر. في وقتنا كانت المرحلة الابتدائية أقصى ما قدمته مدينة درنة من تعليم مما اضطرنا إلى شد الرحال إلى مدينة بنغازي للدراسة الثانوية، انتقلنا بعدها إلى الجامعات المصرية؛ فلم تكن الدراسة الجامعية قد بدأت بعد في ليبيا.
جيلنا كان جيل الرعيل التعليمي الأول بعد نهاية الاستعمار الإيطالي واستقلال البلاد، كنا جيل الحلم في بلد آمن متطلع إلى غد أفضل، أنظر الآن حولي وقد غاب أغلب رفاق الحلم الذي تبدد عبر الأيام وتحول إلى كابوس، أعرف وأتمنى ألا يطول الوقت حتى يأتي بعدنا جيل جديد، جيل كطائر العنقاء ينهض من الرماد ويبدأُ معه الوطن في البناء من جديد.
تعليمي الحقيقي بدأ في مدرسة النصر بدرنة وشهرتها آنذاك (السكولا الحمرا) نظراً للون طلائها الخارجي، وقد بنيت في العهد الإيطالي أصلاً كمدرسة للبنات الليبيات. موقع المدرسة كان موضع مخاوف لدي البعض؛ فقد كانت تطل على مقبرة (جبَّانة) سيدي محمد بي الشهيرة، وكان عليّ أن أشق طريقاً متعرجاً وسط المقبرة وصولاً إلى المدرسة، والخوف كل الخوف من أن أطأ على قبر أو أصطدم بلحد. كان هذا أقصر الطرق، ولكن كثيراً ما كنت مضطراً لأخذ الطريق الأطول والالتفاف حول المقبرة عندما تمطر السماء تجنباً للغرق في الوحل. عموماً لم أكن أخشى اختراق المقبرة بمفردي وإن كنت أكثر اطمئناناً إذا كان معي بعض الرفاق، فقصص العفاريت والأرواح الشريرة لم تكن أبداً بعيدةً عن أذهاننا. (الصور لمدرسة النصر وسور المقبرة على اليمين وأنا أمام المدرسة).
في صورة قديمة لفصلنا الدراسي التي يبدو أنها التقطت في أواخر مرحلة الدراسة الابتدائية ربما عام 1947 أو 1948، أنظرُ في الصورة وأحاول أن أجد للوجوه أسماءها، والغريب أن أول محاولة لم تكن مرضية فقد غامت وجوه وغابت أسماء. عدت إلى الصورة أكثر من مرة وبدأت رويداً تومض الأسماء الغائبة في ظلمة الذاكرة. يظهر في الصورة بعض أساتذتنا، ومن بين هؤلاء الأساتذة الأجلاء تبقى ذكرى الأستاذ أحمد فؤاد شنيب والشيخ حسين لحلافي أكثر التصاقاً بالذاكرة؛ فقد كان لهما تأثير قوي على الفصل عموماً وعليّ بالذات.
وقبل أن تنتهي المرحلة الابتدائية وفي السنة الخامسة منها وربما قبلها -إن صحت الذاكرة- حصلت مفاجأة لم تكن متوقعة تمثلت في انضمام فتاتين للفصل للدراسة معنا طوال ما تبقى من المرحلة الابتدائية، وكانتا من أسرة عريقة عادت مع من عادوا من مهجرهم بسوريا بعد تحرير البلاد من رِبْقة الاحتلال الإيطالي، ولم يكن في درنة وقتها مدرسة للبنات توفر لهما مستوى من التعليم يتماشى مع ما كانتا قد قطعتاه من مراحل في الدراسة بالخارج، وقد أضفى وجود الأختين الفاضلتين معنا جواً لطيفاً هذب الكثير من تصرفاتنا الصبيانية.
وتبعد المسافات بيني وبين درنة ويبقي حنين غامض دائم إليها، وتطوحنا الأيام من مكان إلى مكان، ولكن كما يقول الطائي: يظل حنين الفتى أبداً لأول منزل.
مواليد درنة، وأتم دراسته ببنغازي وجامعة الإسكندرية وتحصل على دكتوراه في علوم الزراعة بجامعة كمبريدج. عمل مديراً لإدارة تطوير البحوث والتقنية لدى منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو). صدرت سيرته الذاتية “عصير العمر” عام 2018.