"مريم سلامة"
من بين صور كثيرة توثق عملي في الإرشاد السياحي بدءاً من 14/2/1990 إلى 30/1/2011 تحتفظ هذه الصورة بسرٍّ خاص، مازال حتى هذه اللحظة يبعث في روحي نشوة الخروج من الشرنقة، فما السر؟
هذه الصورة هي لمجموعة من السياح اليابانيين وقد أنهوا لتوهم جولة في طوابق متاحف السراي الحمراء، وأزقة المدينة القديمة بطرابلس؛ بمنازلها التاريخية وجوامعها وكنائسها ومدارسها العتيقة، وحان وقت الظهيرة ومغادرة المكان لتناول الغداء في مطعم السفير. ولكن المكان آسر ومغادرته أمر غير يسير، والذاكرة إن آل إليها الأمر وحدها قد تخون وترمي الأمر برمته في غيهب النسيان، فكان اللجوء إلى واحد من أعظم اختراعات العصر (آلة التصوير) لتقييد هذه اللحظة بكامل روعتها في هذه الصورة.
إلى هنا لم أكشف بعد عن سر هذه الصورة. إنها المرأة حاملة السر، هذه التي تلف وسطها بجاكيتها الأحمر وتضع على عينيها نظارة وتقف على يميني. عندما التقينا في مدخل المتحف في ميدان الشهداء وقدمها لي مرافق المجموعة من شركة الربان، التي دأب مديرها على فتح ممرات سياحية مع دول لم تألف السياحة في ليبيا مثل اليابان والمكسيك، احتفت بي وبعملي بشكل ملفت أحرجني في البدء؛ فقد تعودت على عملي، خصوصاً بعد مرور ما يزيد على 15 سنة من العمل كمرشدة، وهذه الاعتيادية (الليبية في صميمها) أفقدته حق الاحتفاء بقصب السبق والإحساس بالتفرد و التميز. ولكن انعكاس بهجتها الغامرة على وجودي الخارج على وجل وخجل من من شرنقة أسرية ومجتمعية ضيقة أشعرني بكياني المتفرد، فتاة ليبية تدب في حقل جديد حتى على الرجال، حقل لم يزاحم أبداً حقل النفط الذي استحوذ على اهتمام الدولة الليبية بشكل لم يترك مساحة كافية للحقول الأخرى حتى تنطلق من قاعدة منهجية وتدريبية إلى العالمية.
أنا مرشدة سياحية لم أدرس أو أتدرب لأكون كذلك، ولم ألتق بمرشدة سبقتني أو حتى مرشد يرافقني في الجولة الأولى وينقل لي خبراته. في الصورة أحمل نسخة من كتابي السياحي في طبعته الثانية 2005، أما طبعته الأولى فقد صدرت في 1995 (مما يستحق الذكر أن سيدة يابانية ترجمته إلى اليابانية وأهدتني نسخة)، وهذا كثير على البنت القادمة من وسطٍ بناتُه إما معلمات أو ربات بيوت؛ و أنا أيضاً كاد أن يكون هذا قدري لو لم يحدث ما حدث من إنهاء تعسفي لهذه اللغة في مؤسساتنا التعليمية في سنة قبل تخرجي من جامعة طرابلس/ كلية التربية/ قسم اللغة الإنكليزية. لقد تخرجت لأكون معلمة لهذه اللغة ولكن شغفي بالترجمة والكتابة صيرهما شمساً و قمراً أدور في فلكهما حتى عثرت على المكان الذي يسعنا في 8/12/1989، وهو مشروع إدارة وتنظيم المدينة القديمة طرابلس، وكانت المباشرة الفعلية في 1/1/1990، لم يكن مقر عمل فحسب بل مدرسة تخرجت منها مترجمة ومرشدة وباحثة.
هذه المرأة عالمة فيزياء تدرك معنى التكريس والمنافسة في دولة مثل اليابان، الجهد الذي قادها إلى أن تكون رئيسة جمعية علماء الفيزياء التي تضم في عضويتها أكثر من 2000 عالم، لذلك اندفعت بتلقائية المرأة إلى احتضاني بإعجاب وتقدير طوال الجولة، ترفع يديها في قبضتين وتردد: "نحن نساء قويات"، وعلى وجهها ابتسامة رضا؛ فهناك في قارة إفريقيا فتاة تتكلم الإنكليزية وتعمل في السياحة قد التقتا ذات صباح. قلت أفريقيا؛ فحتى عام 2005 -حين رافقت وفدا نسائيا أمريكيا- كن لا يفرقن بين شمال القارة وجنوبها، ومعرفتهم بليبيا شبه معدومة لدرجة أنهن أحضرن لنا شامبو وغسولاً كهدايا، ولم أفهم الغرض حتى سألتني إحداهن من أين اشتريت فستاني؟ ثم أردفت تتساءل عما إذا كان لدينا محلات نشتري منها حاجياتنا!
مواليد طرابلس، أديبة ومترجمة. أستاذة الأدب الإنكليزي والكتابة الإبداعية في جامعة الزيتونة بليبيا. صدر لها عدة أعمال قصصية وشعرية، منها “ست وردات وناي” و”للغصن هذا الكلام” و”الحديقة المقفلة”.