"مناجي بن حليم"
في بيتنا المتسع ذي الباحة المفتوحة المسماة وسط الحوش تتوسط سدة من ألواح باهتة تتدلى منها دوالي عنب. بعضها ناضج للقطف والكثير منه متساقط على الأرض وقد قبَّل عنقود مختمر البلاط المنقسم على لونين البياض فيه وترك الحمرة نظيفة؛ كأني به يكيد أمي المسكونة بهاجس النظافة، وهي التي قسَّمت أعمالها بين طهي ونظافة وإعالتنا جميعاً بلا كلل. حين تقابلني أثناء عودتي من المدرسة أبواب بيتنا الزرقاء اللامعة أدرك كم قضت أمي من الوقت لتنزع عنها الغبار وهي التي تعشق لونها وتسميه الفيروزي.
أمي تعشق المطبخ وتتفنن في تفاصيله؛ فهنا أواني الليموني ترسل بريقاً وقد توسدت دولاباً مكشوفاً ناصع البياض، وذاك شباك صغير فوقه أصص النعناع والحبق تجاوره حزمة زعتر ناشف تطري حلاوة روح أمي، وتجعلها تطرب مع صوت السيد بومدين منساباً من مذياع صغير بلون البرتقال. كنت دوماً أشاغبها عندما أقفل راجعة من أي مشوار بطرق باب بيتنا الخارجي بالحلقة المصنوعة على هيأة يد مضمومة، ويأتيني صوتها: "بشواش راني منيش ورا الباب." خاصة وأنها ستمر بزقاق طويل حتى تصلني لأدلف مسرعة في أحضان يضمخها الريحان والبخور، بينما يدها تمسد ضفيرتي الجعدة.
حين قدمت للحياة توقف رحم أمي عن استقبال حياة أخرى. قال لها الطبيب: "أنت ضعيفة، لن يعود بإمكانك الحبل ثانية." خبَّرتني أمي ذات صفاء أنها حمدت الله كثيراً أنني أنثى؛ كي أونس روحاً سبقتني بعامين أسماها أبي (هنية) تيمناً بجدتي الراحلة التي لم يهنأ بالعيش معها.
أمي سيدة ودود حد التساؤل، كنت أفزع دائماً من احتمالها صرامة عمتي وفضولها. لكنها كانت تطمئن روحي وتربت على خاطري قائلة: "إيه يا بنتي، الدنيا مفرّقة". لكنَّ روحي كان يأكلها الامتعاض من عبارتها تلك، فأفرد مساحة صوتي الصغير مشاغبة إياها: "لكنها تستفزك!"، فيأتيني صوتها الواثق: "لكنها عمتك، والمثل يقول البنت لعمتها". فأصمت برهة لأقرر أني لست مثلها.
أمي قدرية صاحبة اللون الخلاسي والعينين الرماديتين ابنة لونها وسليلة أسرتها الطيبة، كانت عكس والدي صاحب البياض المشرب بالحمرة والعينين العسليتين، فبقدر هدوئها كانت عصبية والدي، وقدر سكونها كانت ناره متقدة؛ كنت أتساءل كيف يلتقي الماء والنار؟ وتأخرت كثيراً لأتعلم أن هذه هي سنة العيش لكي نستمر.
ذات صباح شاهدت دمعة على خدها مسحتها بكم فستانها لتدعي أن عينها قد طرفها أحد أظفارها، لكن صوتها كشف اضطراب روحها فقد كانت مكشوفة حد الشفقة. أمي كانت تحمل الوجيعة في روحها وتنميها في مهد المغفرة، ولعلها كانت تهدهدها أيضاً. قلت لها ذات جلسة في حجرها: "لم تحتملين الإساءة؟ ردي فأنت لست ضعيفة". ضحكت بنقاء وأجابت: "لأني لا أحب أن أجرح أحداً".
"لكنهم يجرحونك حين يعيرونك بلونك، وحين يسخرون من طيبتك، ولطالما عرضوا بصمتك وحسبوه خوفاً."
"وهل أنا مثلما يقولون يا بنتي؟"، ردت بسمتها الوقور.
ذبت خجلاً من جرأتي؛ فأمي بنت شارع قصر حمد وزنقات البلاد العامرة بروائح الأحبة لم تنشأ إلا لتحب. كانت دائماً تخبرني عن جاراتنا وعلاقتها بهن؛ عن عمتي حليمة بنت شيخ العطارين في بنغازي سليمان النجار رحمه الله، وعن شارع بالة وخريبيش وسوق الظلام والجريد وسط الشابي وسوق الحوت، وعن حوش امنينه بيت الكرم.
أمي لا تحسن سرد التاريخ كأخي مفتاح، لكنها تحسن الحديث عن الذكريات، وتجيد الصمت حين يصبح الحديث بلا معنى، وتتقن الستر حين يتعرى المسيئون في محيطها. بنت الحوش العربي بخوخته وسدته وسقيفته الباردة، وروائح النعناع والحبق والياسمين الدرناوي؛ تفردت في أرواح من عرفوها بالنقاء لم يطمسها حقد ولا عرفها مجلس نميمة، تلك أمي فمن مثلها تجود الحياة به!
مواليد بنغازي، مديرة سابقة لقطاع الثقافة والإعلام والمجتمع المدني بنغازي. لها ديوان تحت الطبع بعنوان “أتقيك بك.”