العريشة

"منى الساحلي"

"البيوت العتيقة شبيهة بالشّيوخ..إنّها ملأى بالذّكريات"

يان أوتشيناشيك

لكنّ هذا البيت ليس مجرّد بيت عتيق، ولا ذكرياته كالذّكريات. إنّه يكنز ذكريات لأجيال نشأت وتعاقبت بين ساكنيه وزوّاره. شهد تاريخ البلاد فازدهى بما ازدهت واكتوى بما اكتوت به، لكنّه بقي على حاله فلم يغرّه اللين ولا أرهبته الشدّة.

عندما شرّفني زملائي بطلب المشاركة في ألبوم ليبيا شعرت بحرج شديد؛ فلست ممّن تستهويه الكتابة ذات الطّابع الشّخصي (إلا شعراً)، ولا يتوفّر لديّ من الصّور ما يسهّل الاختيار. لم يكن في ذهني صورة معينة، لكنني سرحت بخاطري فلذت إلى بيتنا الكبير، بيت العائلة في حي (السّكابلي) الذي فررنا إليه من هول حرب سرعان ما تمادت، فاضطرتنا إلى النّزوح خارج المدينة ولم يسلم البيت من إصابات القذائف والرّصاص. دخلت وسط الرّكام لأجد طريقي إلى أمتعتنا وصورنا القديمة، أعثر مع كلّ خطوة بمشهد، وأستحضر في كلّ زاوية حكاية وذكرى. كان صوت جدّتي الواعظ يتردّد في أذنيَّ بترنيمته المميّزة:

احفر على ساسك وجدّد بنيه

وانسَ الطّمعْ ينساك فقر الدّنيا.

أو وصاياها المسجّلة لكلّ من يسافر منا:

نوصّيك لا جاورك جار

تعطيه سرّك يضيحه

لين توزنه وزن دينار

علي كلّ كفّه اتميحه.

ما وقعت عليه يدي لن يضاهي ما حضر في ذاكرتي، لكن قد أجمع خيطاً من الذّكريات في صورة توجز جانباً منّا ومن هويّتنا. فالطّفل الذي يظهر في الصورة هو ابن أختي (عمر الورفلي)، يجسّد امتداد الأجيال أمام عريشةpergola  (أو البرّاكة كما كنّا نطلق عليها) في حديقة بيت بني في عهد الاستعمار الإيطالي، وانتقلت ملكيته -إبّان الإدارة البريطانية- إلى مدير البريد الإنجليزي، وكان -كما أخبرنا جدّي- يتفرّغ بعد دوامه مع زوجته وابنه للعمل في بناء هذه العريشة حتى أتمّ بناءها وطلاءها ثمّ إنارتها بمصباح كبير في الوسط الهرمي، ومصابيح ملوّنة من الجوانب.

آلت ملكية البيت إلى والدي علي السّاحلي- رحمه الله- في مطلع الخمسينيات، فكانت العريشة ظلاً ظليلاً، ومنظراً بديعاً في كلّ فصول السّنة. تعقد الاجتماعات تحت قبّتها، وتنعقد أمسيات الأدب والشّعر تحت أضوائها الملوّنة، تتنوّع الأحاديث بحسب شخصيات الزّائرين، فتكون لقضايا السّياسة او لإنشاد الشّعر وتداول أخبار الأدب، من فصيح وشعبيّ، على تعاقب الأعمار والأجيال.

لم تتردّد الشّعارات الوطنية والدّينية بكثرة على مسامعنا، لكننا كنّا نحاسب على أيّ تقصير في أداء واجباتنا، كان للعمل قيمة مطلقة وكان التّقاعس عن أداء ما يوكل إلينا يعدّ جريمة، أمّا الكذب -وهو بلا لون لكنّ أشكاله كثيرة- فلا يغتفر.

في هذا البيت تعلمنا أن قيمة الإنسان ما يحسن، وسلوكه هو وحده الدّليل عليه، بغضّ النّظر عمّا يحمله من شهادات أو شعارات. تعلّمنا أن نتنافس في العلم، فقلّ اهتمامنا بالمظاهر المادّية ولم تتدّخل يوماً في علاقاتنا بالآخرين.

كنا نرى أذى النّاس واستغلالهم ينال من مروءة الإنسان، وينتقص من دينه ووطنيته، وكنّا نؤمن بأن الصّدقة لا تطفئ غضب الرّب إذا اقترنت بالظّلم وأكل السّحت، وانتهاك حرمة المال العام. لم نكن مثاليين، ولا كانت قناعاتنا تبدو غريبة عن واقعنا، ولا كانت مشقّة الاحتفاظ بها كبيرة، كما هي في وقتنا الحالي.

كان (عمر) يدرس بمدرسة تونسية في بنغازي، حين سألته مرّة عن أمر ما، أذكر أنّه أجابني بالفرنسية (ظانّاً أني لن أفهمه): "je suis libre"! مع إيماني بحق الأجيال في الاختلاف حسب سنّة الحياة، لكني واثقة أن سلامة المنبت يمكن أن تمدّ الفروع بالقدرة على مقاومة العواصف، وما تعلمناه في هذا المكان جدير بأن يغذي (عمر) والأجيال الجديدة- المتطلّعة إلى الحياة الحرّة- بالرّوح المثابرة على العمل، الذي نعوّل عليه لتحقق أحلامها وآمالنا المعقودة في بناء وطننا الحبيب.

مواليد بنغازي، حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة مانشستر، درّست بجامعة بنغازي وجامعة الإمارات. نشرت عدة أعمال نقدية وأدبية، منها “كتاب الإبداع والحرّيّة: قراءات في الشعر الليبي”، 2013، و”على حرف: ديوان شعر”، 2018.

منى الساحلي
القصة التالية
مفتاح الوصول إلى الأمس