"مهند سليمان"
لكل صورة حكاية يقسو علينا حنينها، فتسكن اللاشعور لتطفو كقصيدة حين نرويها لنتذوق ملح دموعنا. لا أذكر أن لهذه الصورة مناسبة معينة، لعلها تأريخ لحظة حميمة شاتها أمي انطلاقاً من شغفها بالتصوير (علماً بأني لم أر أمي قط تحمل كاميرا)، وعالم الصورة وولعها بالصورة جعلها تشكل شجرة للعائلة وتضعها في إطار مزخرف.
الصورة التقطت في أستديو منصور أحد أشهر محال التصوير في أوان ذاك الزمن بشارع جمال عبد الناصر (مسقط ميلادي وامتداد أبعاد قلبي)، والذي استمر سنوات حتى أغلق أبوابه قبل عام ٢٠١١ بقليل، وفي السنوات اللاحقة حرصت على اقتناء كاميرا تصوير بهدف إحياء الشغف لدى أمي. كانت تميل لاقتناء الصور والعناية بها ووضعها في ألبومات وترتبها ترتيباً أبجدياً دقيقاً؛ إذ كانت تعد الصورة توقفاً عظيماً للزمن تمارسه آلة تصوير ضئيلة، وفي المقابل كان أبي يهوى الاحتفاظ بالأوراق والدفاتر والمقتنيات القديمة.
لعل هذه العدوى اللذيذة بالاحتفاظ بالقديم قد انتقلت إليّ بالوراثة للدرجة التي جعلتني لا أتوانى عن سرقة الصور أو أي وثائق قديمة ليس لي بها علاقة، قد يظهر هذا الهوس محنتي اللاشعورية وهي أنني ربما أرغب في إضافة عمر آخر لعمر فنى، وكنت برغم الجزاء والعقاب لا أنفك عن الاستمرار في مسعاي، كلما نظرت لما احتفظت به أجدني أتوقف لأتأمل جريان النهر بين قدميّ، حيث تقذفني الذاكرة على صدر تلكم الأيام الخوالي.
في العيد مثلاً كنا نعُدّ أبجدية الفرح حرفًا حرفًا بدفء جيوبنا، وفي عطلة نهاية الأسبوع نحلم مُجددًا بالعودة للمدرسة ومشاكسة أقراننا، والجميلة التي حرصنا على حُبها في وقار الصمت. حتى الأب وهو ينزوي وينأى بعواطفه تعلمنا أن نُحبّ انسياب غموضه على قماش أيامنا البِكر.
يقودنا لذلك ألبوم صور نتصفّح لوعة ذكرياته وصدىً يقود لصوتنا الخفيف وتطرقنا الهواجس بتؤدة، ثم في ومضة فارقة تُحيَّدُ فيها همومنا بزخم ذاكرة ما داخل صندوق لم تصدأ مفاتيحه، فنتذكّر أول تساؤل وجوديّ دلقناه في حِجر أُمنا.
إنها عودة رجوع الصبي لحُلمه وحَلمتيّ غذائه الأول، عودة تُفرحني حُزناً كزغردة صبيّة أمي أماه ماما يُمّة. لا أدري كيف أكتبك يا أمي، بأي لغة وبأي مفردات زرعتها فيّ سنون غيابك العجاف، هل أبدأ من قولك الراسخ بأني لن أكون شيئاً إلا بعد رحيله المطلق؟! كيف أقول مرة أخرى بعدما صاغك الموت بحنوّ قسوته؟ كيف أتجاوز تاريخ رحيلك وأول لعبة أهديتها لي؟ العلاقة بيننا لم يُطفئها الموت؛ رحلتِ كأن لم ترحلي ولن ترحلي.
حكاية أمي لم تبدأ بعد ليُسدل عليها الستار، فإن للحديث بقية؛ فللحلم ثمالة أسرتني في سماواتها أمي. الدعوات على أكفّها لي بالمرصاد غور الفرح وغزو المحبة كانا كل أسباب ذكريات ذاك الأمس واتكائه بنشوة على ألبوم الصور.
إنه الحنين، مفتاح الوصول إلى الأمس البعيد وصيرورة مده وجزره وضمان خطّ الرجوع بأسىً يأسر، وسفينة اضطررنا للقفز منها بمقتضى التطور، وسنعرف بالحنين كيف كنا نلوذ بمخاوفنا عن الجميع. وسنلمس تفاصيل تعثّرنا ونضحك بكبرياء؛ لأنّنا كنا الطفل الذي تهجأ الحياة بعفوية ماطرة تعطش لها الأزهار في أقصى شمال الأرض. وإنها محنة الحنين: نتذكر كيف كنّا ونسعد بالقدر ذاته الذي نحزن فيه.
مواليد طرابلس، كاتب ومحرر صحفي يعمل بالصفحة الثقافية لصحيفة الصباح الليبية وموقع بلد الطيوب الثقافي، نشرت مجموعة من نصوصه الأدبية في كتاب “شمس على نوافذ مغلقة”.