الأستاذة والموسيقار

"نسرين العالم"

عندما ترتبط سيدة ليبية فلسفتها في الحياة أن الأنثى كرامتها تكمن في استقلالها، وأنها لا تقل عن الرجل شيئاً في مجتمع -في ذلك الزمان له تحفظاته حول دور المرأة- برجل يتحدى واقعه بابتسامة أصبحت أهم مميزاته، ويضع حلمه بين طيات وتر الكمان، حينها فلا بد أن تنتج عائلة كل أفرادها مميزون بطريقتهم الخاصة. وقد توارثنا من خلالها ذلك التوازن ما بين الروح والعقل، فلك أن تمر في هذه الحياة بشخص يحمل عقل فنان مجنون قادر على الحلم ومطاردته، ومعلمة تدرس منهج الحياة بعناية محسوبة النتائج.

أنا أكبر أبناء هذه العائلة التي أبناؤها ثلاث فتيات وصبي، حيث تعلمت كيف أن نظرة المجتمع وتقاليده أمر لست مسؤولاً عنه، وبهذا يكون النجاح والتفرد رغم صعوبته أمراً مفروغاً منه، رغم العوائق وما يعتقد المجتمع أنه الطريق التي يجب أن تختارها، وفقاً لمعاييره الخاصة التي أحياناً للأسف لا تمنحنا فرصة أن نكون ذواتنا فعلاً، وتلك المحاولات المتكررة من قولبتنا حسب ما يرى.

مدرّسة الإعدادية وعازف الكمان تحديا العالم بداية من ارتباطهما إلى تربية أبنائهما؛ فهي كانت المؤسسة تربوياً وهو المثقف حسياً، أكثر ما يتبادر إلى ذهني هو أن يكون اليوم العادي عبارة عن تردد لصوت الكمان في أنحاء المنزل، ومساء خربشة قلم أمي على صفحات واجب الطلبة. ولد أبي وأمي في طرابلس فكانا عاشقين لها وورثنا حب هذه المدينة من حبهما لها، وكان أبي عاشقاً للموسيقى وواجه الكثير من الاعتراض على أن تكون هي مصدر رزق له.

واتخذ اسماً مستعاراً هو منير عصمان، ومما حدثنا عنه أحد رفاقه أنه كان يذهب في بعض الأمسيات إلى ميدان الشهداء -وهو منطقة مكتظة بقلب العاصمة- ليبدأ بالعزف وحده ويرحل؛ وكأنه يفرض الجمال على هذه المدينة فرضاً.

أما عن أمي فهي تربت في عائلة محافظة تهتم بتقاليد المجتمع، مع توازن تم رفقة منح الآخر حقه التام في ممارسة حياته؛ فكانت كبنات جيلها ترتدي ما توفره الموضة كما نرى من صور أمهاتنا، حيث كانت السيدات الليبيات يشبهن نجمات السينما، وقد قادت السيارة أيضاً ما إن استطاعت توفير حقها من عملها، وكانت تجددها أيضاً كلما أتيحت لها الفرصة.

فكان من الطبيعي أن تتلاقى روح السيدة المستقلة مع روح الفنان الهائم ليكونا زوجاً وزوجة، أما عنا نحن فلم نكتسب الميول الفنية أو عزف آلة موسيقية ولكننا نتذوق اللحن بشكل خاص نتيجة تعود آذاننا على الموسيقى الرائقة منذ الصغر، ومن جهة أخرى فقد ورثنا من ناحية أمي القدرة على التخطيط والترتيب وتوقع النتائج، واحترام الغير حيث كان هذا مبدأ مقدساً عندها.

رحل أبي مبكراً سنة 2002 وبشكل مفاجئ ليختل توازن العائلة، وتصبح السيدة الليبية في وجه مجتمع يضعها في قالب الأرملة، وعلى عاتقها مسؤولية تربية أربعة أبناء، أنا أكبرهم.

هذا الاختلال لم يدم طويلاً، فقد أمسكت تلك السيدة الباسلة دفة الحياة لتقود الركب الصغير عدداً الكبير ثقلاً، إذ يعتقد البعض أن إجراءات كتسجيل الأطفال في المدرسة وأخذهم إليها وإعادتهم وإضفاء المرح عليهم والاهتمام بعيد ميلاد كل طفل وتلبية كل رغبة خاصة هي أمر هين؛ ولكنه أمر يصعب على ربات البيوت حتى في وجود إزواجهن إتمامه على أكمل وجه، وللشهادة أن أمي قد أتمت هذه المهمة وأدتها بجدارة،  لنتخرج من الجامعات ونعمل في مجالات مختلفة نتميز فيها، وتبقى هي تجني ثمار نجاحها الإنساني فينا، أو بين قوسين (كما نتمنى نحن أبناؤها أن نكون قد ارتقينا إلى مستوى نجاح ترضاه).

ربما تكون هذه قصة عائلة ليبية موجودة بشكل اعتيادي في مجتمعنا الليبي، ولكن توثيق جزء بسيط مما مرت به هذه العائلة مهم؛ حيث نعتقد الآن أن هذا النوع من الأسر قد انقرض ولكنه وجد منذ زمن، ولا يزال مستمراً في مجتمعنا الليبي

مواليد طرابلس، درست علوم المعلومات والمكتبات بجامعة ناصر. عملت مقدمة ومعدة برامج لعدة قنوات تلفزة ليبية. تعد وتقدم حاليا برنامج هنا ليبيا بقناة الوسط WTV.

نسرين العالم
القصة السابقة
جدي في بيته