"نوري عبد الدايم"
الصورة توثق أحد اجتماعات معهد جمال الدين الميلادي للمسرح والموسيقى، عام 77-1976. كان العدد الكلي للطلبة من كل أنحاء ليبيا ثلاثين طالباً، يقل أو يزيد قليلاً.
كان يومنا عبارة عن مثلث؛ الإعاشة والإقامة بين شارعي هايتي والسيِّدي، قبل أن ننتقل إلى فندق قرطبة حديث الإنشاء لأحد رجال الأعمال الذي لسوء طالعه كان مشروعه متزامناً مع إعصار"الزحف".
هذا أنا الفتى الرابع من اليمين، والأول الأستاذ الدمشقي فؤاد البزري، أستاذ آلة القانون والتذوق الموسيقي. بجانبه بشير الزطريني الذي دخل إلى كلية الضباط مبكراً؛ وقتها كان هذا الانعطاف رائجاً. الشاب الذي يجاوره والواقف في الخلف تسربَّا من الذاكرة.
عمل عبدالسلام التاورغي الجالس خلفي ممثلاً في بعض الأعمال بالمسرح الوطني بطرابلس. أستثمر موهبته وعفويته فعمل خطيباً بأحد الجوامع، لاقت خطبه رواجاً كبيراً الأمر الذي لم يرق لمنظومة العسكر فسرقت من عمره سبع سنين، كان خروجه مع آخرين مصحوباً ببروباغندا مفتعلة: هتافات صاخبة متداخلة مع صوت "محمد وردي"، ليعود عبد السلام ممثلاً في مسرح الطفل والشباب هذه المرة.
الجالس يميني"عبدالله الرياني"، كان همًه كيفية إخبار والده بأنه لم يختر معهداً للمعلمين. كان ملتزماً بارتداء "الجرد التقليدي" أثناء مجيئه وعند عودته نهاية الأسبوع. شارك ممثلاً في بعض الأعمال بالمسرح الوطني ورحل عن دنيانا مبكراً.
قدمت من ضاحية جنزور، نحن جيل الستينيات الذي خرج لتوه من رحم دار الطين إلى رحابة "دارين ولايده"، نقصد طرابلس أو"البلاد" مرتين؛ مرة لشراء ملابس العيد ومرة نزهو بها ثاني أيامه. كانت المدينة تحيطنا بالبهجة ونحيطها بالدهشة، ونقصدها لارتياد السينما في فترات متباعدة. كانت طرابلس أماً وملاذاً آمناً.
داخل "زاوية الكتاني" طرق سمعي: "يا شيخ، على أي مقام ستقيم الآذان اليوم الرست أم البياتي ؟!!" وقتها أدركت ودية العلاقة بين الدين والفن، كنا نرافق موكبها إلى داخل السور بالغيطة والدفوف. كان أستاذ التاريخ حينها يلقننا بأن الدراما ارتبطت نشأتها بالاحتفالات الدينية التي تقام للإله ديونيسوس.
كنا جيلاً يسبح في أنهار من الأحلام والأمنيات العذبة.
كان ناصر المزداوي يفتتح عهداً جديداً للون آخر من الموسيقى، وكان أحمد فكرون يستكشف أفقاً آخر. وحسن التركي، المخرج الأكثر حضوراً وقتها، كنا نشاهد أعماله بشغف، حتى دخول الملون بأجهزة "أبيض وأسود".
وكانت أغنية "قارئة الفنجان" تصدح من محلات الأجهزة المسموعة وباعة الكاسيت وعبر أجهزة التسجيل على شواطىء البحر، وكان "عبدالحليم" الأقرب إلى نفوس جيلنا العاشق للأحلام والحياة والحب.
لم أنس آخر يوم من شهر مارس عام 1977 م عندما استهل أستاذ التربية الدينية الأزهري الدرس بتعزيتنا والترحم على روح "عبدالحليم حافظ"، ويعطينا تفاصيل وفاته في الليلة البارحة.
لم يستسلم وقتها الشارع لسطوة العسكر؛ فما زالت طرابلس تحتفظ بمدنيتها وجمالها وعذوبتها. المحلات مشرعة أبوابها، ربطات العنق تزين البدلة الرسمية لموظفي الدولة، اللباس التقليدي هوية وانتماء لرجالها، لحاف النساء الأبيض يشع اطمئناناً في أزقتها.
كانت التجارة شريانها مصدر بهجتها وحيويتها. "محلات زقلام" تمد شبابها بملابس الجينز– لباس كل الطبقات – بأسعار زهيدة نخفي بها بعض عوزنا.
كانت طرابلس تعيش حالة من الاسترخاء، ومثلنا تسبح في أنهار من الأحلام العذبة دون أن تدري ودون أن ندري بأن أنهار الأحلام صارت تجف، نهراً تلو الآخر.
أوقف شريانها، علت أصوات التشنج والهستيريا، تغلغل العسكر في عروق مؤسساتها لينقض على ما تبقى من ...
ولكنْ للتاريخ رأي آخر.
مواليد جنزور، مخرج مسرحي وكاتب صحفي. صدر له عدة كتب عن المسرح والعمارة منها “ليبيا مئة عام من المسرح 1908-2008” و “زاوية عمورة أنموذجا من الفن المعماري في ليبيا.”