"هدى الغالي"
هما أبناء عمومة (دآت ويلول) وجيران منذ الطفولة بحكم صلة القرابة، لكنها لم تكن تعرفه معرفة كبيرة بالرغم من ذلك. فلقد كان يدرس في طرابلس التي تبعد عن مكان إقامتهما بزوارة مسافة 120 كم، ولذا لم يكن موجوداً هناك باستمرار.
لم تتجاوز الرابعة عشرة حين تزوجته، لقد كان زواجاً تقليدياً بجدارة. كان في طرابلس حين علم بأنه سيتزوج من ابنة عمه، لم يكن الخبر صادماً له بقدر ما كان مفاجئاً لها، فلم يتعارفا حتى أصبحا في بيت واحد يجمعهما.
عاشا معاً في ظروف صعبة في بداية زواجهما كالكثير من الأزواج، ولكن تحسنت ظروفهما مع الوقت بقليلٍ من الصبر من ناحية وكثير من رجاحة العقل من ناحية أخرى.
لم يكن قاسياً في تعاملاته الأسرية على الإطلاق، بل كان متفهماً لظروفها، مراعياً لكونها أمية ولا تستطيع مساعدته في دراسة الأولاد، ولكنه كان يعول عليها في كثير من الأمور. لم تكن مادية أو جشعة، ولم تلمه ولو مرة واحدة على تحملها كل أعباء العائلة وحدها بالرغم من صغر سنها، ولم تسأله حتى عن الاحتياجات الأساسية للبيت إلا ما كان يجود به من تلقاء نفسه.
استمر زواجهما لأكثر من خمسة وخمسين عاماً، لم أره يوماً يعنفها لا باللفظ ولا بالإيحاء، ولم أرها يوماً تطلب منه ما لا يطيق، بل كانا يتشاركان دعابات وقفشات سخرية في أحاديثهما حينما يمران بمنغصات الحياة. كانت كثيرة الحركة في البيت ولم يكن لديها متسع من الوقت للأحاديث والزيارات الأسرية؛ فإعالة ثمانية أبناء لم يكن بالشيء السهل. كما كان هو كذلك قليل الكلام وكثير العمل فلا يمكث في البيت ساعات طويلة بسبب أعماله المستمرة، ما عدا وقت وجبة الغداء وقراءة الجرائد اليومية والشاي الذي يليها، فذلك هو الوقت المقدس الوحيد والممنوع إلغاؤه من جدولهما اليومي، وكانت حينها "عالة الشاهي" سيدة الموقف يرافقها الحديث وقسط من الراحة.
بدأ أبي يستمتع أكثر بالبيت بعد تقاعده، فلقد كانت مسؤولياته في العمل كبيرة خاصةً أنه كان مديراً للجهة التي كان يعمل بها، ولكن ما إن تقاعد حتى أصبح يمارس روتيناً يومياً مختلفاً عن روتينه السابق، فقلت سفرياته المتلاحقة وأشغاله المقلقة وأيضاً مسؤولياته الاجتماعية بوصفه من وجهاء عائلته الذين كانوا يعولون عليه في حل الكثير من المشاكل المتعلقة بالقبيلة. حياته الأسرية الجديدة أصبحت أكثر هدوءاً بل وربما بدأ يتمتع بأوقات فراغه، وكذلك خفّت مسؤوليات أمي وأعباؤها الأسرية وأصبح البيت أكثر سكوناً بعد أن تزوج أغلب أبنائها.
في فترة التقاعد والسكون هذه كانت لعبة "الضامّة" روتيناً شبه يومي لوالدي، وبعد أن تزوج الأولاد الذين كانوا يشاركونه هذه اللعبة احتاج لمن يلعب معه فلم يجد إلا أمي، فعلمها أصول اللعبة وكان أكثر فوزاً في مباراتهما لأن أمي لم تكن لديها أي خبرة باللعبة سابقاً. كان في البداية يترك لها المجال للربح وأحياناً يساعدها لتفوز، وكم كانت تشعر بالغبطة حين ذاك، فكانت تطلق صيحة عالية لنشوتها وبهجتها بالفوز، ومع مرور الوقت أصبحت تفهم أصول لعبة الضامة أفضل وتحاول أن تفوز بدون مساعدته، خاصة وأنها لم تعد قلقة على مشاغل البيت.
أخذتُ لهما هذه الصورة في خريف 2009 بشكل تلقائي، ولم ينتبها لالتقاطي لها بسبب انسجامهما في اللعب.
كلما أنظر للصورة الآن أفتقد والديَّ جداً، ولكنني أيضاً أشعر بغبطة عندما أتذكر أنهما كانا سعيدين لآخر لحظات عمرهما معاً. رحم الله أمي وأبي وجعلهما من أهل الجنة
مواليد طرابلس، مهندسة ديكور ومصممة جرافيك. متحصلة على دبلوم دراسات عليا وعملت معيدة بكلية الفنون الجميلة بطرابلس. صممت العديد من الهويات البصرية لعدة شركات محلية وأجنبية .