"هيام عراب"
وسائل التواصل الاجتماعي باتت شاهدة أكثر منا على ذكريات انقضت واختفت أماكنها، فيذكرنا الفيسبوك من وقت لآخر بها.
كنت قد غادرتُ ليبيا في الخامس عشر من يناير 2014 ورصدت شهراً كاملاً قبلها لصور كانت أغلبها لقوس ماركوس بكل زواياه، وملامح مطعم تقليدي في وسط المكان كان ملاذاً لي ولصديقاتي لاقتناص طبق الحوت وفخاريات اللحم. لم تستهوني الكافيهات الجديدة بحي الأندلس والسياحية والتي كانت حينها تنتشر كالنار في الهشيم، ولربما صبغت تلك التصاميم صبغة لم تكن من رائحة وملامح طرابلس. بعض تلك الأماكن عصري بشكل لا يتناسق وغنى هذه المدينة بتفاصيلها البسيطة، فلا تتصور لوهلة بأن هذه الاماكن تتوسط بالفعل طرابلس؛ المدينة التي حملت تنوعاً قد يبدو غريباً لزائر غريب يحاول التقاط كل تناقضاتها في زيارة واحدة.
طرابلس حَوت بيوتاً من صفيح وبالرغم من أن هذه البيوت وجدت لفترات طويلة إلا أن واقعها لم يتغير، واجهات لمبانٍ وفلل وعمارات تمثل وجه طرابلس الآخر أيضاً، إلا أنني ارتبطت بشوارع فشلوم وزواياها الضيقة. لم تمثل لي بن عاشور وتمدنها في الطرف المقابل شيئاً في ذاكرتي، بالرغم من أنني اشتغلت وحجزت لعاطفتي مقعداً مرتبطاً ببن عاشور المتعلقة بدراستي أيضاً، إلا أن هذه الشوارع ترفعت عن مصادقة ذاكرتي.
آخر شهر لي في طرابلس حاولت فيه جمع صور لكورنيش طريق الشط وأخرى لصخور ذات العماد والأمواج تتكسر على صلادتها، طرق اعتدت المرور بها يومياً؛ فطريق مستشفى السكر كانت طريقي اليومية إلى العمل. حديقة طريق الشط ونادي الفروسية لم تكن مجرد نقاط توقف عندما كنا نريد الحديث عن أمر يضايقنا كصديقات نسترق الوقت من فم السائلين عن موعد عودتنا إلى بيوتنا، كانت هذه الأماكن بمثابة صندوق لأسرارنا. نقف على قارعة الطريق نحاول إيجاد ولو فرصة لمكان خال لنترجل من السيارة ونخطو بضع خطوات حتى نصل إلى الشط دون مضايقة. هناك نبدأ بالحديث عن كل ما يحدث معنا في بيوتنا وفي أماكن العمل وحتى في خلافاتنا الصغيرة. هذه الأماكن كانت شاهداً على مواقف كُنّا فيها نحاول شق طرق مختلفة، فكل واحدة منّا الآن تقطن في بلد مغاير، ولم يبق في ليبيا إلا القليل من الصديقات.
ولكن إرثي من الصور اختفى من شقتي عندما سُرقت في تركيا. مازلت أذكر ذلك المنظر ولحظة معرفتي بالحادثة. يومها أخبرتني زميلتي التركية في العمل بأن مالك الشقة يطلب مني العودة على الفور من دوامي وأن أقطع عملي لأحضر الى المبنى، والذي كان قد سرقت منه خمس شقق. أغلب الموجودين في المبنى سُرقت ممتلكاتهم الثمينة، ولكن لا شيء كان أثمن من سرقة ذاكرة كاملة محملة بالصور أو الوجع.
لم تكن صوراً في حقيقة الأمر بل كان تاريخاً تركته ورائي بلا عودة. كانت ضحكات صغار أخواتي وهم في سنواتهم الأولى، صار الواحد منهم شاباً هذه الأيام ومنهم من تزوج أيضاً دون أن أحتفي بذاكرة هذه الأيام.
أرى كماً هائلاً من التناقض بين ذاكرة الفيسبوك العشوائية لحياتي التي تباغتني أحياناً، مقارنة بذاكرة كاملة كانت تحاول البقاء قبل أن تُسرق عنوة؛ ذاكرة صامتة في هدنة غير معلنة، مخفية داخل اللاب توب دون مساس ودون مكاشفة ودون جرأة على الحنين. بعدما قرر السارق اختطاف كل ما في شقة مثل بيوت الصفيح في طرابلس لم يكن بها الكثير؛ لم يبق غير هذه الصورة لقوس ماركوس.
قرر زائر الليل يومها نثر كل قطع القماش أرضاً وطرح كل ما كان في طريقه، تاركاً مكاناً أصابه الجنون، لم أعرف بعدها ما إذا كان شاغراً أساساً أم إنه بالفعل كان موجوداً.
مواليد طرابلس، شاعرة وكاتبة، حاصلة على بكالوريوس في برمجة الحاسب الآلي. تنشر نصوصها في العديد من الصحف والمجلات الليبية والعربية. صدر لها “قبل أن تغادر” مجموعة شعرية، 2012.