أربعة من العطاش

"يوسف إبراهيم"

أربعة من العطاش يتطلّعون إلى ماء وفير، عندما غادروا مدينتهم في ليبيا –قبل سبع سنوات- كانت المياه تأتيها يوماً واحداً كلّ بضعة أشهر، ومازالت حالُ العطش كما هي حتّى اليوم.

هذه الصورة ليست في ليبيا طبعاً؛ إذ ليس لدينا أنهار ولا مقرّات مدهشة للـBBC ولا للـITV، وليست لدينا مدينة إعلام ولم نفكّر في ذلك، وبداوتنا الفكريّة حتّمت علينا أن نتّخذ الهدم منهج عيش وأسلوب حياة. على أحد هذه المباني في الصورة نحَتوا –بحجم كبير- اسم مسلسل تلفزيونيّ مازال يُعرض منذ عام 1960 هو Coronation Street، إذ كلّما دخلتْ أمّةٌ أكملتْ ما بدأتْه أختُها ولم تلعنها. عام 2014 وصلتُ إلى مانشستر وأنا أعاني من سماع أصوات القذائف في جمجمتي بشكل دائم، ولم أُشفَ منه إلا بعد حوالَي ستة أشهر من النظر إلى الماء والخُضرة والوجوه المبتسمة بدون سبب.

وقت التقاط الصورة لم يمضِ على وجودنا أنا وزوجتي وطفلَيّ هناك سوى بضعة أسابيع، وحرب المطار في 2014 كانت قد بدأت منذ أيّام، تلك الحرب الّتي فقدتْ فيها عائلتانا الممتدّتان شابّين كانا يتصوّران مستقبلاً مفروشاً بالورود لهما ولليبيا. الحرب صنو الموت، ولم أستوعب يوماً أن تكون الحرب حلّاً لمشكلة. إنّ تغييب الأدوات السياسية اللازمة للصراع السلميّ على السلطة وللحوار المجتمعي، بل وغياب ثقافة تقبّل الآخر والتسامح هو ما أفسح المجال لبديل وحيد هو العنف.

خلفي مباشرة –وأنا ألتقط الصورة- مبنى فضّيّ رائع هو Imperial War Museum يحتوي على كل ما قد يخطر ببالك عن الحرب، بما في ذلك الأشرطة الوثائقيّة وعدد من الوسائط المعلوماتيّة المختلفة، وبدءاً من دبّابة عراقيّة –غنيمة- في ساحته الخارجيّة إلى طيّارات مقاتلة حقيقيّة تتدلّى من السقف فوق رؤوس الزائرين، ولم يغفلوا حتّى عن حرب الزعماء السيكوباثيّين على شعوبهم فعرضوا سيّارة حقيقيّة لشرطة موغابي قادرة على التدحرج والعودة إلى وضعها الطبيعي إذا ما تضافرتْ جهود جموع الغاضبين على قلبها.

هنيئاً لمن أفلحوا في وضع الحرب في متحف، وهنيئاً أيضاً لمن يعيش في الجحيم ولم يكتشف النار بعد، بل ومازال ينتظر إغفاءة الرجل في الكهف المجاور ليهوي على رأسه بحجر.

يوسف إبراهيم

مواليد طرابلس، أكاديمي، شاعر وروائي. صدر له ديوان شعر و روايتان: “ماريش”، 2008، و”الغارقون في الساقية”، 2022، الحائزة على جائزة أحمد إبراهيم الفقيه للرواية.

يوسف إبراهيم
القصة التالية
الأيام الجنوبية
القصة السابقة
الحوت الليبي في لبنان