الأيام الجنوبية

"يوسف الشريف"

ودعتها سنة 1957 وعدت إليها سنة 2010، افترقنا حياة عن حياة وبين الاثنين حنين. تقول لي نفسي عد إليها لترى أثراً منك؛ لأنها من حياتك وتجربتها. ترددت وطال ترددي حتى توارى الحنين خلف تعاقب الأيام وما حملت، ثم كان أن فرض الحنين سطوته فعدت إليها في رحلة يوم واحد، رتب لها علي هارون وكان تلميذي.

تأخرت رحلة الطائرة المتجهة إلى سبها ساعتين ووصلت عند الساعة الثالثة مما أضاف على قلقي؛ إذ إن الزمن المتاح لضوء النهار لا يمكن من الذهاب والعودة قبل غيابه، لكن عبد القادر الخبير في القيادة والعارف بتفاصيل الطريق كان له رأي آخر، ولأن علياً كان قد أخبرهم بقدومي فقد وجدتهم في انتظاري وكأنهم يستقبلون عزيزاً عليهم طالت غيبته عنهم سنين. احتضنوني بفرح لن أنساه، وكانت الوليمة التي أعدوها تكفي لضيوف يضيق بهم فضاء البيت. لم أستجب لدعوة حبيب للمبيت معهم، قال: "أنت قد لا تستطيع اللحاق بطائرة العودة". لم أستجب لدعوته وسألتهم عن سيارة أجرة، رأيتهم وكأن سؤالي فاجأهم. قال علي: "السيارة موجودة والسواق موجود"، وأشار إلى عبد القادر. غرقت في فيض قلوبهم، عبد القادر هو الذي كان في انتظارنا بالمطار، ودعت السيدة الجليلة وكذلك الأطفال وتركت قليلاً من أثري مما كتبت للأطفال.

الطريق خارج سبها أعادتني إلى تلك السنين البعيدة، الأرض طينية أو ترابية أو حجرية، لكن عبد القادر كان يعرف الطريق كأنه ولد في أحضانها. تحت إلحاحي كان يضخ الوقود بقدم ثابتة فتحيل سرعة السيارة حتى مداها الأقصى، الطريق يوشك ألا يُرى. أخيراً لم أحتمل خوفي فصرخت، المسافة من سبها  إلى ونزريك 200 كم. كان فرحي ظاهراً عندما توقفت السيارة أمام بيت العائلة، وهنا أيضاً وجدت نفسي غارقاً في حب يهز الجوارح. قالت لي نفسي أنت لن تغرق في حب مثل هذا الحب، عيون تشتاق وقلوب تتفتح وأيدي تحتضن. لم أحتمل فيض المشاعر فبكيت، هل تعرفون دموع الفرح؟ تلك هي التي توهجت على صفحة وجهي. وزعت كتبي على الصغار والكبار وسألتهم أن يأخذوني.

قال واحد منهم: "لا تتعجل؛ إن المدرسة قريبة". لكن الشمس التي كنت أراها تركض بسرعة غير مألوفة. مشينا خطوات ثم عرجنا ثم تقدمنا ثم توقفنا. أنا لم أتوقف، واصلت سيري، لكن توقفت عندما سمعت صوتاً يناديني: "وين ماشي يا أستاذ يوسف"؟

وجدتهم يقفون أمام أطلال.

قال علي: "هذه هي المدرسة."

وجدت نفسي غارقاً في صمت أوجعني، أنظر إلى ما أرى ولا أصدق. طال صمتي حتى أيقظني صوت:

"هذي مدرستك يا أستاذ يوسف."

"مدرستي؟ أين المدرسة؟"

"أنت في المدرسة."

انفصلت عن الحاضر ووجدت نفسي في زمن آخر، زمن بعيد أراه الآن حياً. هنا كانت داري الصغيرة، فيها بدأت حياة أخرى عذبتني وآلمتني لكنها فتحت أبواباً ما كنت أظنها أبواباً، هنا كانت الساحة، هنا كانت الفصول، هنا كان عمي أحمد يحكي عن حروب القبائل، وهنا كنت أسمعه يقول: "نحن لا نقتل العقارب". هنا كان الباب الكبير وهنا الباب الصغير، هنا كان خمني يقتفي أثر الذئب، هنا كان سنكيل يبحث عن صوت في مذياعه؛ هنا تحت هذه الأطلال كانت حياة، هذا هو البئر الشاهد الوحيد على أيامها.

هنا تعلمت أن الشدائد تعلم الشجاعة، وأن الرجال ما جربوا.

(1938-2021) مواليد طرابلس، يعد من رواد كتابة القصة في ليبيا، تخصص في وقت لاحق في مجال الكتابة للأطفال ونشر كتب قصص ومسرحيات وموسوعات علمية للأطفال ودراسات في التربية. وعرف أيضًا كإعلامي وصحفي وإذاعي، وقدم إسهامات كبيرة في مجال الإنتاج البرامجي والصحفي.

يوسف الشريف
القصة التالية
الذهابُ للمصوِّر مرتين
القصة السابقة
أربعة من العطاش