أمّي حين تسرد التاريخ

"أحمد يوسف عقيلة"

كثيراً ما أطلب من أُمّي أن تحدّثني عن المعتقَلات، فتغمض عينيها وتهزّ رأسها:

سريب طويل، الله لا يعيده عَلَيْ مسلم. كلينا الزنْباع والرِّينش، أصبح الواحد جلداً عَلَيْ عظم.كنا نلمُّوا بعَر البِل؛ ناخذو حبّات الشعير الممْصوصة اللي في البعر نحمّصوهن وناكلوهن، اسنين جوْع، حتَّى الذِّيْب في الوديان جاع.  في الْمَقْرُون كان عمري خَمسطاش ولَّا ستطاشَر سنة، لا أب لا أمّ. بوي مات في الحرب، أمّي ماتت ونا في ظهرها، كنت نبكي علي سدَادة القِدر، قطعة عجينة سودا من الدخان. كل صبح يوزّعوا علينا (الرَّسْيوني)،كل بيت قدح دقيق، الشبردق فيه أربع أفواه، كل فم تقابل فيه جبّانة، الدفن ليل نهار، اللي ما يموت من المشنقة يموت من الجوع، حتى في الليل يدفنوا على ضَيّ الفنار. وَيْنما يخَطّم طَيْر حَمام نبقوا نقولوا:

يا طَيراً ما شي لجبَلْنا

قُول لهَلْنا

رانا في المَقْرون نزَلْنا.

يقولوا لنا الكبار: ماعد عندكم شِي هَل في الجبل؛ هَلْكَم كلّهم في المقْرون.

 

حدّثتْنِي أيضاً كيف كان الناس يُعَلِّمون أطفالهم القراءة والكتابة مستخدمين فحم التنُّور أقلاماً! قبل أن تسمح لهم السلطات الإيطالية بالقراءة في مدرستها (السّكُولا).

تقول ضاحكة: طائرتان إيطاليتان تحومان فوق الرحيل الْمُتَّجه جنوباً في منطقة (الحليقيمة)، هذا ما لا تملّ روايته. في المقدمة محمد الْهَنْكري يرتجز وهو يُصوِّب ناحية الطائرة:

حَوِّد يا طَيْر ... على أم الخيْر.

ومسعودة التي تفزع إلى الغنَّاوة في أحلك الظروف، فتُحرِّض الرجال على القتال:

هذول هم اللي يا عين ... يحَاموك والنار والعة.

تقول أمّي:

طيحوا الرجّالة طير اقْرنَوا فيه بالبنادق، الطير لاخَر حام، توطَّا ورَدّ علينا البِل، طَيَّح بمبة قتلت عمَّك محمد عقيلة الْهَنْكري، قسماته نصَّين، ردَّوا عليه في الليل ولَمَّوه ودفنوه.

تقول في حكاية أخرى وهي تشير إلى أثر الشظية في رقبتها تحت الذقن مباشرة:

طيَّح الطير بمبة علَي نجعنا قتلت أمِّي مبروكة القندوليّة، صادتني منها شرِّيكة في رقبتي. ردَّت عليّ عَمّتك أم الخير ربطت راسي بالمحرمة وجلَينا. ردَّوا الرجّالة على النجع، لقيوا وليّة مقتولة راسّا مقطوع وعَيِّلها عَلَيْ صدرها ويرضع!

بعد رحيل الألمان في انسحابهم الشهير من العَلَمين إلى تونس مروراً بليبيا؛ كانوا يتركون وراءهم الكثير من آلياتهم، قهرتها الصحراء قبل أن تعطبها الحرب، نشف وقودها، انثقبت إطاراتها بفعل الحصى الْمُدبَّب والصخور الْمُسنَّنة، أو كانت أبطأ من آليات الإنجليز الْمُطارِدة فتركوها، لم يتسع لهم الوقت لتدميرها.

يَمُرّ رحيل البدو من أمام مراوَة، يقفز أحدهم فوق درّاجة نارية ذات ثلاثة إطارات، يحرِّك فيها شيئاً فتنطلق الآلة، يمسك بالمقود بكل حرصه على الحياة، تعلو صرخات النساء، يُذهَل الرجال، تنفر الإبل، تجفل الحمير، تختفي الآلة الجهنمية خلف المرتفَع، يبدأ صوتها في التلاشي. تعود مرةً أخرى، يصرخون له بأن يقذف بنفسه لكنَّ الدرّاجة تسير بسرعة مخيفة؛ فتختفي في الجهة الأخرى. تظهر ثانية، يتفتَّق ذهن أحدهم عن حيلة فيصرخ:

ـ نزّلوا الرّواق، نزّلوا الرّواق من فوق الناقة.

أنزَلوا الرّواق، فكوا طيّاته، مدَّدوه، نصبوه بينهم. يصرخ صاحب الحيلة مرةً أخرى لقائد الدرّاجة الذي لم يكن يعرف أكثر من أن يُدير المقود فيتَّجه ناحيتهم، نطحت تلك الآلة الشيطانية الرّواق، انقلبت، أطلقت أنيناً، دارت عجلاتها قليلاً في الهواء ثم سكنت.

ـــ مالَك ومال مخروبة النصارى، اللي مَي فرس بوك توَقّعَك.

بعض الآليات كالدبابات والعربات كانت مادة جيدة لصناعة المزامير، فعلى الرغم من كل القسوة التي يعيشها البدو فقد كانوا يجدون في أنفسهم القُدرة على أن يزمِّروا فوق الخراب.

مواليد ريف الجبل الأخضر، كاتب قصة قصيرة وباحث في التراث والفولكلور الشعبي. صدر له العديد من المجموعات القصصية، ترجمت منها للإنجليزية والتركية والفارسية، كما أصدر موسوعات الشعر الشعبي وغناوي العلم والأمثال والحكايات الشعبية.

أحمد يوسف عقيلة
القصة التالية
الجشة، الوطن القبلي
القصة السابقة
ولِهٌ بمكتبته