الذهابُ للمصوِّر مرتين

"يونس الفنّادي"

والدي كان يمتهن الفلاحة والزراعة في أرضٍ لا يملكها، بل يُعمِّرُها لعائلةٍ من أشراف "حي العمروص" بمنطقة "سوق الجمعة" قلب مدينة طرابلس الليبية. تزوج وهو في سن الثانية والعشرين كما يثبته عقد النكاح المؤرخ في 24 نوفمبر 1956م والذي مازلنا نحتفظ به في خزانة العائلة ضمن وثائق وصور ومستندات قديمة أخرى.

والدي أُميٌّ لا يعرف القراءة والكتابة إلَّا ما تيسر له تذكره من حروف وكلمات آيات سور قرآنية قليلة التقطها أثناء سنوات تعليمه في كُتّاب قرية "أولاد دياب" بمنطقة "المنقيت" المحاذية لقاعدة هويلس الجوية الأمريكية ((Wheelus Air Bas، قبل أن يغادرها مع والده ووالدته والأختين اللتين تكبرانه. ومفردةُ "المنقيت" مركبةٌ في الأساس من كلمتين إنجليزيتين هما (Main Gate) وتعني "البوابة الرئيسية" في إشارة لبوابة قاعدة الملاحة أو "هويلس" الأمريكية التي كانت تقع بجوار سورها الغربي مساكن أسرة "الفنادي" إحدى عائلات سوق الجمعة العريقة.

أخبرتني أمي رحمها الله أنَّ عرسها كان بسيطاً مثل مهرها الموثق بعقد الزواج، وهو عبارة عن كيلو فضة مصوغة ورداءين وسباط وصندوق مزركش بالفضة وفراش ولوازمه كصداق معجل، ومؤجله كيلو من الفضة، وهذا بالتالي لا يختلف كثيراً عن زواج الأسر البسيطة بالمنطقة.

تلك المناسبة الماضوية السعيدة في زمن مضى ظلت حاضرةً على الدوام في بيتنا، وتحديداً داخل غرفة والدي من خلال بعض الصور القديمة المعلقة بإطارات وسط حائطها البحري الشمالي، والتي من بينها إطار معدني مذهب يجمع صورتين معاً للعريس والدي وصحبه أخذتا خلال أسبوع عرسه سنة 1956م.

نعم، هي صور عرس الفلاح الأمي الفقير التي أثارت في ذهني العديد من الأسئلة حين كنتُ أقف للنظر إليها ملياً وتأملها بعناية فائقة، والرجوع معها لاستذكار الحالة المعيشية والمستوى الاقتصادي لأسرة والدي الفلاح الأمي الفقير، واهتماماته بتوثيق تلك المناسبة الشخصية التي أثمرت ذرية طيبة مباركة ومازالت متواصلة.

كنتُ أسرح بخيالي أمام زجاج الإطار الذهبي وأرسلُ نظري إلى صورتين مميزتين يضمهما معاً، مبتهجاً بكل الجماليات التي ما كان يتسنى لفلاح أمي فقير أن يحظى بها في تلك الفترة الزمنية البعيدة؛ ففي الصورة الأولى على الشمال نراه بزي وطني أنيق يتكون من طاقية وفرملة وسروال يلفه حوليّ ناصع بياضه، وينتعل حذاءً أسود لامعاً، ويتزين معصمه الأيسر بساعة يد بارزة، يتخذ مقعده على كرسي يتوسط قلب الصورة لأنه العريس وهو بؤرتها الأساسية، ويقف خلفه على التوالي من اليمين صهره محمد علي الخويلدي، وصديقاه خليفة بن رمضان والحاج علي الزني بكامل أناقتهم ونصاعة لباسهم التقليدي الجميل. أما في الصورة الثانية فهو يجلس بلباسه الأنيق في الموضع المركزي نفسه حاملاً باقة وردٍ، وعلى شماله صديقه إبراهيم امحمد المصراتي الذي يرتدي ملابس إفرنجية مع شاشية على رأسه، والحاج علي الزني الذي يظهر بلباس عادي رافعاً كُمَّي قميصه الشعبي لتبرز ساعة بيده اليسرى.

فكيف يفكر هذا الفلاح الأميُّ الفقير بالذهاب لأستوديو التصوير والتقاط صورة فوتوغرافية للذكرى بمناسبة عرسه؟ بل من خلال الصورتين نكتشف أنه يذهب أكثر من مرة لهذا الأستوديو للغاية نفسها.

يظهر هذا الفلاح الأمي الفقير في الصورة الأولى بساعة في يده اليسرى، ولا شك بأن الساعة كانت ذات قيمة مالية لا بأس بها في تلك الفترة الزمنية البائسة، وقبل ذلك كانت علامة للوجاهة الاجتماعية وتشير لمستوى الأسرة ورقيها ودرجة صدارتها في الوسط الاجتماعي، ويمكن لنا أن نتساءل قبل أن يلبسها كيف تعلم استعمالها لمعرفة الوقت، وقبلها ما حاجة فلاح أميٍّ لمعرفة الوقت بالساعة المعاصرة؟

لا شك أنه لا غرابة بأن يرتدي الفلاح الأميُّ الفقيرُ أجملَ ما لديه من ثيابٍ أيام عرسه، ولكن الغريب أن نجده يحمل باقة ورد، وإن كانت بلاستيكية، فهي ذات دلالة جميلة وقوية في رمزيتها معنى ولوناً وعطراً كذلك.

فعن أي فلاحٍ وأميٍّ وفقيرٍ نتحدث؟ وعن أي زمن وجيل ومجتمع نحكي وهو مازال يبهرنا بكل روائعه الماضوية!

مواليد طرابلس، كاتب وأديب وإعلامي مستقل صدرت له عدة كتب في مجالات النقد والتقديم الإذاعي، أعد وقدم العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، يعمل مهندساً في مجال الأرصاد الجوية والتغيرات المناخية.

يونس الفنّادي
القصة السابقة
الأيام الجنوبية