"أريج خطاب"
ليس لدي صور للزمن الذي أود أن أخبركم عنه؛ لذا زرت موسم الجلامة في أوئل هذا الصيف، وأخذت هذه الصور لأتذكر مجدداً فترة من أجمل وأعمق ما عشته في حياتي.
كنا في طفولتي في الثمانينات نشد الرحال إلى منطقة الجشة انطلاقاً من بيت جدي في مدينة البيضاء، حدث هذا كلما حان الربيع الذي كنا ننتظره بشوق مختلف عن شوق الآخرين لأزهاره وشمسه الدافئة واخضرار الأرض خلاله، نترقبه بشغف مختلف عن أطفال جيلنا فكثيرون منهم لم يخوضوا خلاله مغامرات كتلك التي كنا نخوضها في الوطن القبلي. من تلك المغامرات موسم الجلامة ما بين شهري أبريل ومايو وهو زمن جز صوف الغنم؛ حيث يجتمع فيه الجلّامة يجزون ويغنون الأهازيج الشعبية التي تدعى القذاذير. أو موسم التغطيس في نفس الفترة، حيث يقومون بغطس الأغنام واحدة تلو الأخرى في حوض كبير من الماء به القليل من الدواء لحمايتها من الأمراض.
من عام إلى عام نترقب أواخر فصل الربيع لنشد الرحال إلى الجشة، ننام تحت قعقعة صفيح البراكة في الصباح الباكر وعلى صوت الجلم نصحو واحداً تلو الآخر، نتقافز من مراقدنا في اتجاه الخلاء قاصدين حوض الجابية، يرمي أشجعنا الدلو في الماء في الجابية ثم يسحبه، والبطل هو من يستطيع جره لوحده دون مساعدة أحد لنتمكن من غسل وجوهنا بالماء، تسفع وجوهنا الصغيرة نسمات الصباح الباردة التي تميز الوطن القبلي ويزيدها تبلل ملابسنا فنحن لم نعتد على الاغتسال بالجردل.
بعد زيارة حوض الجابية نذهب في مغامرة مكررة إلى حقفة الحجاج، تلك الحفر في الأرض التي تظهر نتيجة لتغيرات المناخ والتي تمتليء بالماء وهي منسوبة للحجاج؛ إذ قيل إن قوافل الحجاج كانت تقصدها لتتزود بالماء في طريقها للحجاز.
ثم نذهب لنشاهد الجلّامة وهم يجزون أصواف الأغنام مرددين أهازيجهم التي يعبر من خلالها الجلام الغناي عن حالته العاطفية من حب وشوق وفقد وحزن وفرح، وقد تتجاوز عقلية الغناي حالته العاطفية فيعبر عن أوضاع بلده السياسية وهو يجلّم.
كنا لا نعي هذه الأهازيج وبصعوبة شديدة نلتقط كلمة أو كلمتين نرددها في تقليد طفولي لجلسة الغناي ووضعه يده على وجهه كما هي عادة المغنين هنا؛ ربما لشعوره بالحياء أمام كبار عائلته أو قبيلته وهو يعبر عن أعمق مشاعره. كما أن صوت أنصلة أو مقصات الجَلَم مبهج ومتراتب أشبه بمعزوفة موسيقية لن تحظى بسماعها إلا هنا في البر أو الوطن القبلي.
بينما الجلّامة يجزون ويغنون قذاذيرهم وأهازيجهم كانت والدتي تخيط الجوالات بعضها ببعض لتصنع "الحمادية"، ذلك الكيس الذي يوضع فيه الصوف. أما وجبة المثرودة فلا بد من أن تضع لمساتها خالتي مبروكة، والعصبان بلمسة خالتي سالمة زوجة خالي، فلا أحد كان يضاهيها في سبكه وتتبيله وأشياء كثيرة لا تحدها كلمات.
كنا عندما نعود من البر القبلي إلى منازلنا في مدينة البيضاء وبعد الاستحمام نتناول نفس العشاء الذي تناولناه في الجشة المكون من حليب الماعز المطبوخ مع الزعتر، ثم ننام مشحونين بمشاعر الفرح، ولكن كالعادة كان يجتاحنا الحزن على فراق "امقبل، "أو الوطن القبلي" كما كنا نسميه إلى حين موسم آخر؛ كنا نتوق لعودة موسم التغطيس والجلامة خاصة وأنه في نفس الوقت من العام كانت الامتحانات النهائية تنتظرنا بكل تجهم وقسوة.
مواليد البيضاء، حصلت على دكتوراه في الأدب من جامعة عين شمس. أستاذ مساعد بالأدب والنقد بجامعة عمر المختار بالبيضاء. نشرت عدة دراسات أدبية في دوريات أكاديمية، وصدر لها كتاب “طراز الحلة وشفاء الغلة للرعيني الغرناطي”، 2016، الذي حققته.