أغلى ورقة حملتها في حياتي

"إبراهيم عثمونة"

كانوا يهتفون للقذافي، وأنا أيضاً هتفت لأجاريهم ولأتغلغل في الزحمة حيث الهتاف شرط. هم أطول مني وأكثر خبرة ومَن ليس لديه هتافات جديدة لن يتقدم في الزحمة، أحدهم أخذني من ذراعي حين سمعني أبتدع هتافات جديدة، قال: "يا ولد، قد تدمن الهتاف ولن تعود قادراً على الإقلاع عنه."  كنتُ أطمع في توصيل ورقة إلى يد معمر القذافي، بدت لي يدي صغيرة إلى جانب آياديهم التي تهتف، وفي يدي الأخرى الورقة التي أردت أن أسلمها له؛ هكذا أوصتني أختي، كتبت وشطبت وأعدت عليها ما كتبته، قضينا ساعة كاملة نُعد هذه الورقة.

وصلتُ متأخراً، ولكن القذافي لم يخرج بعد. المكان على الطريق العام الرابط بين الجنوب والجفرة، نزلتُ من السيارة أركض نحوهم، برز شخص جسيم أمام الحشد وبيده قائمة، قال إن القائد يريد مقابلة هؤلاء فقط (عناصر اللجنة الثورية بمنطقتي سمنو والزيغن)، ركلتُ الأرض وشعرتُ بخيبة وسخط على هذا الشخص وقائمته، فكرتُ أن أكشف له عن أسماء أحملها في ورقتي. كان الرجل السمين ينادي الأسماء حين اندفع شخص آخر بدا لي وقتها فارساً، خرج من الزحمة رافعاً صوته: "من ذا الذي أوكلكم على الناس لتصنفوهم بالثوري وغير الثوري؟ ومن أنت، ومن وضعك في هذا المكان؟".  أول مرة أعرف أن المقدام هو كل شخص يتقدم في اللحظة المناسبة، ولأجل هذا الشخص أكتب هذه الواقعة التي حصلت عام 1980، إنه المهدي الشريق قنانة -رحمه الله- من بلدة الزيغن المجاورة، حفيد الشاعر "سيدي امحمد قنانة".

تقدم بنا  المهدي صوب البيت الفلكلوري المبني من زرب وقش النخيل قبل أن يتم تطوريه لمنتزه كان يأتيه القذافي كل عام، تقدم بعكازه وبيده الأخرى مسبحة لوّح بها لنا حتى نتبعه ونهتف أكثر. كنتُ ضعيفاً طري العظم، فكرتُ أن أصرخ فيهم وأخبرهم عن فحوى الورقة التي معي فقد كنت صاحب قضية عادلة، لكنهم أيضاً حتى وإن كانوا يهتفون وحسب فهمي يرون في الهتاف قضية. تلفتُّ لعلي أجد المهدي قريباً مني فيدفعهم ليفسحوا لي المجال وأصل للقذافي الذي ظهر لنا وقتها، لكن الشريف توارى وضاع في الزحمة وكادت ورقتي تقع مني وتدوسها أقدامهم المتدافعة صوب العقيد، قفزت فوقهم وكدت أصل لكنهم عادوا بي للخلف فتراجعت والورقة معي.

كانت الورقة تحمل أسماء لثلاثة إخوة لي أخذتهم المخابرات وقتها وأودعتهم السجن، صرختُ وأنا أقفز فوقهم، لكن الهتاف العالي حال دون سماع صوتي. وجدتُ نفسي أتمدد فوقهم كما لو أنني قطعة خشب تتقاذفها الأمواج، ثم في وقت ما وأنا أقبض على الورقة بقوة حتى لا تقع مني بدت لي بالية مهترئة، كتبتها بخط يدي وتأكدتُ من صحة إملائها، وأذكر أنني خاتلتُ أختي (رحمها الله) التي طلبت منهم أن يفكوا أسر إخوتنا و كتبت فقط "أننا نريد أن نعرف أين هم الآن".

تلاشى الزمن وانتهى كل شيء والورقة ظلت بيدي، وكانت تلك خيبة أخرى أكبر من الأولى. نزلتُ من الزحمة التي علقتُ على ظهرها، وأذكر أن سيارة العقيد طارت بسرعة ووقعت طاقيته مع الهواء، غادر وبات لا معنى لورقتي، لكنني فتحتها ووجدتها ما زالت صالحة وكلماتها والأسماء التي فيها واضحة: محمد عثمان عثمونه، وأبوبكر عثمان عثمونه، والنعاس عثمان عثمونه. لم تطاوعني يدي وأنا أهم برمي الورقة، ذهبتُ بها إلى شخص كان يحمل قفة كبيرة مملوءة بخبز التنور يريدها هدية للعقيد ولحرسه، استأذنتُ صاحبها لأدس ورقتي مع الخبز قبل أن يسلمها إلى آخر الحراس؛ فمن يدري لعلها تقع في يد شخص فاضل ينقلها ويسلمها ليد العقيد.

مواليد قرية “سمنو” بجنوب ليبيا، تحصل على بكالوريوس كيمياء من جامعة سبها. أحد مؤسسي ورئيس مجلس إدارة “دار البوانيس للثقافة والتراث”، له عدة إصدارات روائية.

إبراهيم عثمونة
القصة التالية
حكاية صورة
القصة السابقة
فسيفساء عين الفرس