عُقلة وعناق

"المكي المستجير"

وُلِدَ في زمن معتقل العقيلة، الذي شهِد إحدى أبشع صور الإبادة الجَماعيّة في القرن العشرين، وكانت على يد الاحتلال الإيطاليّ.

لا يُعلَم في أيّ سنة -تحديداً- من سنوات الاستئصال الفاشيّة المنسيّة وُلِد؛ فقد كانت "العقيلة" خارج التاريخ، وربّما ما تزال كذلك. حاول عمُّه مرّةً تحديد زمن ولادته فقال: "إنّه وُلِد بعد فَقْدِ نصف القبيلة، وقبل أن يُفرَج عن أوّل فوجٍ من المعتقلين، بعد إعدام سيدي عُمر المختار.

لم يُطلقوا عليه اسماً بادئ الأمر، حيث سبقه إخوةٌ وأخوات لم يُكتَب لهم النجاة ودُفنوا مُفرّقين، وما إن قاوم جسده الغضّ المجاعة والأوبئة وعوامل التعرية وتزامنَ ذلك مع الإفراج عن بعض أعمامه وإخوته الأكبر سنّاً من المعتقل؛ حتى استبشروا به فأسموه "سالم".

كانت نجاتُه مُعجزةً ومجيئه مَرحَمة! وُلدَ سالمٌ مُقاوماً منذ النَّفَس الأوّل له، (بحَنانةٍ) لا قذى فيها.

بعد عقودٍ من نجاته صار من روّاد التعليم في مدينة درنة، ثمّ من أعلام الإعلام في برقة، ثمّ من وجوه الثقافة في ليبيا؛ فقاد مع رفاقه خِصِّيصَى رفيق دربه وكربه "سي حسن لملوم" مشروعَيْ: المراكز الثقافيّة القوميّة، والسينما المتجوّلة في المحافظات الشرقيّة، كما قاد رفقة الحازم "محمّد بن سعود" تأسيسَ جمعية الكفيف الليبي. وبعد أقلّ من أربعة عقود من سلامته صار سالمٌ وكيلاً لوزارة الإعلام والثقافة بالمحافظات الشرقيّة.

كان شُعلة عطاء ظنّها الناس لن تخبو، مبادراً صاحب همّة لا تفتر، كأنّي به يُسرِعُ الخطى مع الشمس مُسابقاً غروبها، متجنّباً الالتفات إلى الوراء؛ خوفاً من العودة إلى المعتقل.

هو جدّي الحاج "سالم اكريّم" الوجيه الحنون، المقاوم النزيه، الشَفوق النبيه، الذي أصرّ على تسميتي المكّي، رافضاً الاسم الرّسميَّ لي. رحمه الله رحمة واسعة (ت 2013م).

منذ أسابيع أُريتُ في المنام أنّي أعانقه، ومعنا رفيق دربه سِي حسن لملوم، وأنا أبكي وهم يبكون، وكُلّنا شبابٌ في عُمُر مُتقارب. صحوتُ وبردٌ بين جوانحي وسلامٌ على قلبي، بعد لأواء امتدّت شهورا طويلة، والظنّ بالله أنّها رؤيا خير.

 

رحم الله أجدادنا، ومن كان جدُّه حيّاَ فليُجِدّ في عِناقه؛ إنّ في القلب مساكنَ لا يملؤها سوى عطف الجد وذكرياته.

ولد بمكّة المكرّمة ولذلك عُرف بالمكّي. طبيبٌ في قسم الجراحة العامّة بطرابلس، وباحثٌ وأديب. مهتمّ بالتاريخ الثقافي في ليبيا.

المكي المستجير
القصة السابقة
حكاية صورة