شكابلي

"الناجي الحربي"

شعور جميل أن تختار العيش كشكابلي، بعيداً عن أهلك وعن أصدقائك وعن ذكريات الطفولة.

شاءت الوظيفة كمعلم إعدادي في أول تعيين بالدولة أن تجمعني بزملاء من قرى مختلفة، كنا ثلاثة استأجرنا بيتاً أقل من متواضع، أذكر المبلغ الذي كنا ندفعه لصاحبه وهو (15) ديناراً ونتحمل نحن أعباء الكهرباء والمياه. أذكر أن الجيران اتخذوا منا موقفاً معادياَ في بداية الأمر، لكننا كنا فرحين بتعييننا معلمين بمدرسة يختلط فيها الطلبة الذكور بالإناث. كنا في أمس الحاجة لتأسيس علاقات مع أهالي المنطقة ومن أي مرحلة سنية، وكان علينا أن نتحلى بالأخلاق وبالالتزام الشديد كي نخطب ود الجيران، كان شعارنا " الغريب: أديب".

كنا نتوجس من أن تُسمع أصواتنا أو صوت الراديو الذي اشتريناه من مال الجمعية التي أسسناها للأغراض الجماعية، كان ثمنه عشرة دنانير. كنا نتوخى الهمس وبحذر شديد ونتجنب استقبال الضيوف من خارج المنطقة أو من المشبوهين والغرباء. كنت مغرماً بالعزف على آلة العود، وكم من خلاف حدث بيني وبين زميلي خوفاً من تسرب الصوت إلى جيراننا الذين لا تفصلنا عنهم سوى قطع الصفيح.

ذات صباح صارحت ناظر المدرسة بحاجتي لممارسة هوايتي، فسلم لي مفاتيح المدرسة لكنه حدد الوقت من الساعة الرابعة وحتى آذان المغرب، وافقت رغم العسف والتقيد بأوامر ما بعد الدوام الرسمي.

لم أكن أعرف أن رجلاً مسناً كان يراقبني وقت خروجي من ( الحِلَّاق – بيت الصفيح ) ووقت رجوعي حاملاً آلة العود التي خبأتها في كيس دقيق بعد أن غسلته أمي جيداً مع مخلاة أخرى استخدمتها كحقيبة لتخزين ملابسي.

ذات يوم سمعت طرقاً خفيفاً على باب الزنك، كنت أعتقد أنها أصابع أنثى. لا أكتمكم سرًا إذا قلت لكم إن قلبي طار قبلي وسبقني إلى الباب، وعلى رؤوس أصابعي فتحت نصف الباب وإذا به ذلك العجوز، وبابتسامة حانية قال لي: "أعرف أنك تحمل كل يوم (موزيكا) ولكن أين تذهب بها؟

حكيت له كل التفاصيل بألم وحسرة، لكنه قال لي: "لن تذهب المرة القادمة؛ أنا شكابلي مثلكم وبيتي مسقوف بخرسانة ولن يسمعك أحد"، ومنذ ذلك اليوم نشأت علاقة فنية بيننا وبين جارنا العجوز. كان كريماً معنا لدرجة مذهلة، وكان طباخاً ماهراً ويجيد صنع الشاي الأحمر بإتقان، وكان حكّاء من طراز أنور عكاشة.

منذ أشهر أخبرني عن طريق الهاتف جاره المحاذي لبيته بأنه انتقل إلى جوار ربه بعد معاناة مع المرض فقررنا السفر لتقديم واجب العزاء. عندما ولجنا الشارع الضيق سمعت دندنته -أو خُيل إليّ ذلك- التي كان يرددها معنا خلف أنغام العود عندما يترنم بأغاني (عبدالجليل الهتش) التي كان يعشقها كثيراً.

وجدنا أن كل شيء قد أزيل بفعل التطور وزحف الغابة الإسمنتية إلا بيته مازال كما هو، لم يتغير منه سوى المدخل الذي بدا مثل بوابة لمتحف أثري. كان عمي (مراجع ) فناناً يتذوق العزف والغناء رحمه الله.

مواليد مسّة بالجبل الأخضر، صحفي وقاص. تحصل على ماجستير في التاريخ. صدرت له مجموعة قصصية “رائحة الجوع”، يرأس تحرير موقع السلفيوم.

الناجي الحربي
القصة التالية
أنا عندي حنين
القصة السابقة
عُقلة وعناق