أنا عندي حنين

"آية الوشيش"

لم يكن الرحيل عبر الكتب هو الشيء الوحيد الذي يريحني، كان الرحيل في سراديب الحياة هو بادية الفضول وصديق التحري. شكت والدتي من كثرة حديثي وكلامي في عهد الطفولة، وأشكو أنا بدوري تساؤلاتي الكثيرة، حتى "نوّار العشية" لم يسلم مني. أقتلع كوز الوردة وأمتص شذى الرحيق وأبتلع بتلاتها كما لو أنها عشبة قابلة للأكل؛ يحدث لأن لونها مختلف يثير اهتمامي. لا نخجل في طفولتنا من عراء أجسادنا، وزلات ألسنتنا، تفتح لنا الأحضان و نتحصل على قبلات كثيرة ودون إذن تزرع على وجناتنا المحبة، لتزهر على أفواهنا ابتسامات نقية. نرقص على قرع الدفوف في الأعراس و ترافقنا ضحكات "الزمزامات" حين تميل الخصور، و تعلو ضحكات العجائز، وتزداد حرارة الموقف حين تزغرد الخالة أو العمة فخراً بروح طفلتهم الخفيفة.

وحدها الأشياء حين ترحل ندرك قيمتها. لا يوجد "نوّار عشية" في بنغازي بكثرة، كون المدينة لا تمتلك كالريف طراوة الأجواء وكثافة الغطاء النباتي، لا يمكنني أن أمد يدي لكوز الوردة و أقتلعه من جديد، أو أحصل على مشوار مجاني في سيارة البيجو الخاصة بجارنا السيد سليمان في شوارع قوريني.

تبقينا العقول جامدين، يثرينا الإحساس بالحركة؛ لذلك تولد القلوب الشاعرة تتبختر في طريق الحب، وحده الحب يجعلني أجول بذاكرتي في طرق الطفولة. لم أشعر يوماً بانتمائي للضجيج، كنت طفلة وحيدة أحيا في كوخ بقورينا قبل ظهور أختي على وجه الحياة، ومازلت أشعر أني طفلة وحيدة تحيا بروحها في كوخ قوريني حتى الآن.

تثير خيالي فكرة البقاء في الجبل الأخضر للأبد، حيث الكثير من "نوّار العشية" برفقة شجيرات الصنوبر الشاهقة، تلبسني أحياناً تعويذات "أبولّو"، حيث يبدأ خيالي بالطواف في ربوع معبد "زيوس" الذي تلمسته يداي في صغري فأدركت جماله قبل قيمته. لم أنس يوماً "باتوس" حين بدأت أصنع له شكلاً في خيالي، فتارة أجعل شعره طويلاً وتارة أخرى أفرد له شارباً وأعطيه طولاً. كلما همت بالقدوم عائلة من أصدقائنا الأجانب والعرب لزيارتنا كان أبي يأخذها ليعرض لها تاريخ ليبيا في جولات عبر المدينة.

أحببت وجه الشلال، وعلو الغابة، وبداية الريح ورقص الورود برقة يميناً ويساراً. تعاظمت فلسفة الصوت في داخلي، لا أدري لماذا لا ينتبه الناس لوجه الجبل الأخضر وهو ضاحك معلناً عن قدوم ربيع كبير يسعد الفلاحين، أو عمّهُ غضب جامح يثير حفيظة الناس إذا ما تواردت على الألسن "يا كريم قبلي حمر" كلما هب الخريف، أو قرر الصيف الدخول عنوة فوق شلال درنة، وتحت أنفاق رأس الهلال، وفي سهول سوسة وعبر وديان سلنطة، وفي أزقة المدينة القديمة بشحات، وخلف أشجار الخروب الباذخة بالشموخ في المنصورة؛ كلها كانت صولات طفولتي التي حثت رغبتي الملحة في اكتشاف المنحلة وكيف يعصر العسل، ما السبيل لترويض بقرة لحلبها بكل يسر؟ الدهشة البالغة في صناعة جمر التنور، والأهم السباق الحقيقي في تجميع أكبر قدر من "الشماري".

وقعت في حب الفلسفة دون غيرها، في قداسة أثينا قبل الميلاد تحديداً، ويغتالني كل هذا الحنين الذي يجتاحني من حين الى آخر، يثيرني دائماً كل هذا الاختلاف في كينونة الحياة وكل هذه الأصوات التي تصنع سيمفونية الوجود. لم أكن أعلم حينها أن للمرء طفولة تؤثر فيه بشكل مفزع، لم أكن أعي أنني في كل مرة أستمع فيها لفيروز تغني "أنا عندي حنين، مابعرف لمين؟" سيظهر في وجهي "نوّار العشية" وشجرة الصنوبر وشوارع قورينى و"أجباح" النحل، و غابات الجبل ورياح الخريف القارصة.

مواليد هانوفر، ألمانيا، متحصلة على بكالوريوس صيدلة من جامعة بنغازي، صدر لها ثلاثة كتب مشتركة في مجال القصة القصيرة والشعر. نُشرت نصوصها بمواقع أدبية محلية وعربية.

آية الوشيش
القصة التالية
جدتي وصورة جدتها