"بدر الدين الورفلي"
تطالع جدتي هنا صورة جدتها التي ماتت قبل أكثر من ستين سنة، كنتُ حريصا على أن أرى ملامحها وهي تشاهدها لأول مرة في صورة فوتوغرافية بعد سنين طوال من آخر مرة رأتها فيها رأي العين؛ فالتقطتُ لتلك اللحظةِ هذه الصورة.
لم تكن جدتي تعرف أن لجدتها صورة حتى عثرتُ عليها بالصدفة، كنت وصديقي الحاج محمد عموش جالسين على كرسي قرب موضع سيدي الشعاب، مستغرِقَين في حديث شيق فأتى ذكر أسرة طرابلسية كنت أدرس حياة أحد أبنائها من رجال القرن التاسع عشر. قلت لمحمد : إن جدة جدتي تحمل لقب هذه الأسرة ولكني لا أعرف ما إذا كانت ثمة صلة بينها وبينهم، وكما هي عادته اتصل محمد فورا بحفيد الجدة، وكانت المفاجأة أنه يحتفظ للجدة الكبرى بصورة فوتوغرافية، وأنه هو شخصيا يقف إلى جوارها طفلا في تلك الصورة.
في أقل من ساعة وصلتني الصورة، وحين رأيتها لأول مرة كنت مدركا أنها لُقية غير عادية. لي ولع منذ الصغر بحكايات الماضي، ولي فضول لرؤية وجوه الرجال والنساء الذين انحدرت منهم، وقد يتاح للمرء من جيلي أن يرى صور "الأجداد" أو "آباء الأجداد"، أما العثور على صور "أجداد الأجداد" فهو انتقال حميم بالعين والوجدان إلى طبقة أعلى من طبقات الأسلاف.
ولا شك أن قدرا ما من حبي للتاريخ جاء من طريق معرفتي بجدتي (وجدي أيضا وأثره في هذا أكبر) لا بالتأثير المباشر فهي لا تحكي تاريخا، إنما بتأثير الحكاية حين يتلقاها ذهن مستعد لها. قالت لي مرة إن بعض المصورين الأجانب التقطوا لها صورة في صبراتة حين كانت طفلة تلعب مع صغيرات أخريات، وقالت إنها ظنت الأمر موجبا للفخر والسرور لأنها الوحيدة التي طلبوا منها أن تقف للتصوير من بين الصغيرات لترتيبها ونظافة هندامها، ولكنها حين أخبرت أمها وبختها وخشيت أن تنشر في مجلة تقع عليها عين أبيها أو أخيها الأكبر. يشطح بي الخيال أحيانا وأحدث نفسي بأني قد أجد تلك الصورة، وكنت قد طلبت منها إعادة الحكاية والتفاصيل في تسجيل صوتي يعينني على التثبت إن وجدت الصورة يوما ما، رغم تسليمي بأن هذا احتمال ضعيف جدا.
.
ابني الأكبر - عمر - أكثر مني حظا، ففضلا عن أنه سيرى من صور آباء أبيه وأمه، فإنه أدرك جدة أبيه وعرفها شخصيا؛ مساء الجمعة من كل أسبوع يرافق عمر أمي وهي تزور أمها، وقد نسج مع الجدة بعض الذكريات رغم قرب عهده بالإدراك.
لم تكن هذه الصورة وحدها ما عثرت عليه مما يخص الجدة، فقبل ذلك استطعت تحديد شهر وعام وميلادها بعد أن كان مجهولا. تقول الجدة إن أمها "ربعنت" حين وقع "زلزال البوصيري" (وهو قاضي طرابلس الغرب الذي وافقت ساعة وفاته مساء 19 أبريل 1935 هزة أرضية فسميت باسمه) وعرف ذلك العام بـ "عام الزلزلة". كنت أقبل هذه الرواية بحذر، وذلك لاعتقادي أن الهزة الشهيرة وقعت في طرابلس، وجدتي ولدت في القصبات، بقلبِ مسلاتة.
بقى اعتقادي أنها هزة أخرى اختلط الأمر على الجدة أو أمها فجعلتاها هي وهزة البوصيري حدثا واحدا حتى تفضل الأستاذ حسين المزداوي فأرسل إلي قصاصة من يوميات لأحد أبناء مسلاتة جاء فيها: "يوم الجمعة وقت العصر الساعة أربعة يوم 14 محرم 1354 / 1935م صارت واقعة شيء من الغرائب لم نرها ولا سمعنا بها من آبائنا وأجدادنا اهتزت بنا الأرض حتى صار طياح بنيان الحيوط" فإذا بالقصة دقيقة ويمكن الاستناد إليها في تحديد عمر الجدة بدقة، وبذا أمكن إن أقول لها إنها ولدت في أوائل شهر مارس عام 1935.
مواليد طرابلس، درس الطب بجامعة طرابلس، باحث في التاريخ.