صورة حُمِّلت بجملة رسائل

"جابر العبيدي"

من بين مئات الصور في ألبومي التي لم أتعمد تجميعها بل جمّعها السير التلقائي للحياة هذه الصورة، وربما لاثنين من مثيلاتها موقع خاص في منطقة الشعور يستعصي على التصنيف والتوصيف؛ فالصور -خصوصاً إذا ما التقطت ممن حولك أو ينتسبون إليك بصلة ما: أهل، أصدقاء، زملاء عمل أو دراسة- غالباً ما تكون مجسدةً لمناسبة سعيدة، أو تؤرخ لواقعة إذا ما عاد بك الزمن للوراء وأنت تطالعها ستكون المطالعة مصحوبة بإحساس النشوة، أو علي الأقل تفتر شفتاك عن ابتسامة حبور أو رضا أو ما شابه من مفردات دائرة  النستولوجيا المحضة.

عندي وعندكم وعند الكثيرين مثيل تلك الصور، وأخمن أننا— أنا وأنتم— لا نقف طويلاً عند تحليل لا مضامين ولا ظلال ولا شيء من محتويات صورة أصحاب سيميولوجيا الصورة الذين يحمّلون الصور أكثر مما تحتمل من طابع الفرجة.

هذه الصورة تختلف قليلاً، بل ولكي أكون دقيقاً  تختلف تماماً عما أسلفت؛ فهي تقع في منطقة مغايرة من حيث دوافع التقاطها وفيما ينثال عنها من مشاعر في كل مرة أخرجتها من ألبومي للفرجة، وفيما ينجر عنها من تقسيم  البلد لفسطاطين:  بين من يراها وهو مع ومن يراها وهو ضد.

لقد حُمِّلت هذه الصورة بجملة رسائل ونجحت بشكل مذهل في إيصالها لجميع من قصد إيصال الرسائل إليهم؛ فالإنسان الذي هو نحن - أنا ورفاقي الثلاثة والعشرون-  ما من أحد منا كان طيلة اثنتي عشرة سنة عجاف في السجن ذئباً لأخيه الإنسان، على ما يذهب توماس هوبز. هذه رسالة.

أما الرسالة الثانية فهي أننا نملك بالبرهان العملي أن نحول جدران السجن وساحاته القاحلة المهلكة للروح لجامعة، بل قل لحديقة، بل قل لساحة، لبناء الذات والأجساد.

لقد كان تماسكنا هو المستهدف وتسفيه أحلامنا والحط مما نحمله غاية من غايات نظام الدكتاتوري. ومع الوقت و بالتدريج و بوصول مثل هذه الصور للنظام وزبانيته وضح لهم أننا نزداد نضجاً و نزداد صلابة ونزداد رفضاً له، ويمكننا أن نشكل بدلاً يستجيب لتطلعات شعبنا. في مرة من المرات وصلنا من أحد زوارنا كلام صرح به رأس السلطة في ذلك الوقت، وكم كان الكلام مؤثراً و مؤشراً على أننا وصلنا و أوصلنا الرسالة:  "لو عندي منهم مية اللي يقروا لدرويش ويحفظوا للشيخ إمام ويغنوا لناس الغيوان هذوم نغزي بهم العالم".

نعم كنا نفعل كل ذلك بهدوء وانتظار عبقري؛ انتظار يعرف أن لا السجن ولا السجان باقٍ.

مواليد الإسكندرية، ناقد أدبي وكاتب مقالة رأي.

جابر العبيدي
القصة التالية
الفتاة في السيارة