"جازية شعيتير"
كنا نشد الرحال منذ الخميس أو حتى الأربعاء؛ تسوق خارجي، وتجهيزات داخلية، أحلام مناماً ويقظة بيوم الجمعة الموعود، للرحلة الواعدة: للبحر صيفاً، و الغابة شتاءً. كنت (بكرية) الأسرة من البنات في الصف الأول الثانوي، وعبدو هو بكر الأولاد في الصف الثالث الإعدادي. وكانت سيارتنا الميتسوبيشي أيقونة الرحلة، فمن بين الطقوس التي نتخذها في تلك الغابة اللعب فيها وبها.
عبدو كان يتعلم قيادتها ويبرع في ذلك، كنت وأختي نطالب على استحياء بتعلم قيادتها مثله، كان يرد علينا والدنا: "إن شاء الله يا بنتي"، ولم نكن نحصل إلا على قدر ضئيل من أحلامنا كالتقاط صورة ونحن خلف المقود.
أبي كان يراني حلماً جميلاً فهو سعيد بتفوقي الدراسي، ولكني كنت أشعر أنه يتمنى في قرارة ذاته لو كنت ولداً، وكنت في تلك الأيام أشاطره الأماني، أو لعلي تخيلته يتمنى أمنيتي! كنت أسرح مع نفسي متخيلة معجزة تعمل على تغيير نوعي لولد، وأتحير فيما أتخير من أسماء الأولاد، وكنت أتصور شعري وهو مقصوص وكيف سأعمد لحلاقة وجهي لإنبات اللحية والشارب "عنوان الرجولة" كما كان يفعل عبدو.
وكنت أحادث نفسي: لو كنت ولداً لعلمني والدي قيادة "الجيلانت القهوية" منذ الإعدادي كما أخي عبد السلام، ولسافرت عندما أكبر، وتعلمت ركوب الخيل، وذهبت في رحلات بحرية مع أصدقائي لأصبح سباحاً ماهراً، ولكنت دخلت الكلية العسكرية كما أخي جمال.
في تلك الفترة كان لدينا جهاز تسجيل مميز كبير، أسود لامع، تستمع به أمي إلى السيدة أم كلثوم كفاصل غنائي بين تلك الأشرطة الطاوية للمسافات بين الإسكندرية وبنغازي، حاملة صوت أهلها يبثونها المشاعر الفياضة ويحدثونها بالأخبار المثيرة. كنت ألعب عليه بالنقر على أزراره البارزة لأطبع تارة ولأعزف أخرى؛ فقد كانت أقصى الأماني حينها أن يسمح لي بالاشتراك في الفريق الموسيقي للمدرسة لأعزف على البيانو، وأجابني أبي على هذه الأمنية بحنوّ وحزم: سوف يؤثر ذلك على دراستك. غيرت الأمنية وجئته بعد حين أطالب بتعلم الطباعة على الآلة الكاتبة، صوت النقر عليها جميل في أذني كأني أعزف، وحركة اليد فوقها قوية وحازمة. لبى طلبي هذه المرة وسمح لي بتعلم الآلة الكاتبة في معهد بوشعالة، ولكن أمي خشيت أن تحيد بي الطريق عن الدراسة وأتحول للعمل مبكراً قبل الحصول على الشهادة الكبرى فقررت إيقاف تلك التجربة. كنت أحلم بالكثير مرددة شيئاً قريباً لما قاله فيما بعد محمود درويش: سأصير يوماً ما أريد.
عندما أتأمل الصورة الآن لا أملك إلا الابتسام حنيناً لتلك الأيام، ويمر أمامي شريط الأحداث بعدها كأني أشاهد فيلماً سينمائياً. مات والدي بعد الصورة بأربع سنوات، وارتديت الحجاب حداداً عليه، ولم يسمح لنا نحن البنات بقيادة سيارتنا الخاصة إلا بعد الزواج مطلع الألفية الثالثة.
ولكنّ للقصة فصولاً أخرى حولت تلك الفتاة الحالمة بعد حين إلى أم، حاولت أن تحقق أحلامها من خلال بنتها فعلمت أسماء قيادة السيارة في الإعدادي واستخرجت لها رخصة قيادة بعد أن صارت في الجامعة. وهي سعيدة أنها جعلتها تلتحق في عمر السادسة بنادٍ لتعليم ركوب الخيل، وعلمتها عزف البيانو في القاهرة فترة الإيفاد للدكتوراه.
وصارت الأم في رحلاتنا البرية، فلم تعد تصطحب روايات لتتمم قراءتها بل صارت مهتمة بالعائلة، تتكفل بالعجن والخبز، تبحث عن الإكليل لتتبل اللحم استعداداً للشواء، تستمتع بجمع الحطب وبقايا الصنوبر الجاف، وتحرص على تنكيه الشاي بالنعناع أو الريحان. صارت تقضي وقتاً أطول أمام النار، تراقب كيفية اشتعالها وألوانها ودرجات لهيبها إلى أن تخبو وتصير رماداً، سارحة في أحلامها التي لم يتحقق منها إلا النزر اليسير.
مواليد بنغازي، أكاديمية لها عديد من المؤلفات القانونية والحقوقية. أستاذة قانون جنائي بجامعة بنغازي. صدر لها مؤخرا كتاب “شجون قانونية: قراءات نقدية في التشريعات الليبية”، 2021.