صورة قديمة وسؤال

"جمعة بوكليب"

من بين كل صوري القديمة واحدة تستهويني، وأحتفظ لها في قلبي بمنزلة خاصة، ربما كان عمري وقتذاك لا يتجاوز عامين أو ثلاثة.

 

ومن الأرجح أن المناسبة كانت عيد فطر؛ لأني أبدو واقفاً عاقداً يدي الطريتين وراء ظهري ومرتدياً ملابس جديدة، ناظراً نحو عدسة آلة التصوير وحاملها بريبة وخشية تبدوان واضحتين. هل تلك الريبة ناجمة عن كوني أقف وجهاً لوجه للمرة الأولى أمام آلة تصوير ومصور؟ أم إنها بسبب المكان الذي وجدتني فيه غريباً؟

 

الصورة التقطت خلف مبنى الولاية - وزارة الداخلية فيما بعد - بميدان الشهداء، وما يميزها هو الحجاب الجلدي الذي أرتديه. الذين لم يعايشوا تلك الفترة الزمنية ربما تلفت انتباههم تفاصيل أخرى، لكن الذين ولدوا فيها فإني أجزم أن الحجاب الذي يطوق رقبتي الصغيرة ويتدلى مختفياً تحت القميص هو أول ما تقع عليه عيونهم، فمجرد رؤيته متدلياً من رقبتي كفيل باستقطاب مشاعر وذكريات مختلفة، وربما ابتسامات محملة بحنين وحزن.

 

مهمة الحجاب حماية حامله، وحامله في الصورة طفل، حسب ما ترويه أمه ولد عليلاً ولم يكن أمامها سوى التنقل به من فقيه إلى فقيه على أمل أن تحظى برقية تقيه خطر الموت. طرابلس آنذاك كانت مدينة صغيرة وفقيرة «تسرح نعاجي وترقد دجاجي»، تتدلى من رقبتها هي الأخرى حجابات وأحرزة لتقيها شرور العاديات.

 

ولم يكن في العالم -آنذاك بعد القضاء على النازية والفاشية- سوى ثلاثة شرور: الفقر والجهل والمرض. وكنت أنا طفلاً صغيراً لم يعرف الفروق بعد بين طير قصب والحمراية، ولا السر وراء ذهاب النساء إلى البحر في مجموعات صغيرة في ساعات الفجر الأولى خلسة ليس للعوم أو الاغتسال، ولم يتعلم فك أبجدية الحروف تحت تهديد عصا فقيه متجهم، وسقف كتّاب مليء بأطفال يرددون بأعلى أصواتهم: "أليف لا شي عليه"، ويتمنون بشوق أن يعودوا جرياً إلى بيوتهم، ليمارسوا حقوقهم في اللعب والعراك، ومطاردة قطط لا تقل شراسة عنهم.

 

يمكن النظر إلى الصورة للتمعن فيما كان يحيط بي من مبانٍ تاريخية: على يساري مبنى الولاية الكبير الذي شيده الإيطاليون خلال الحقبة الاستعمارية وصار بعد الاستقلال مقراً لوالي طرابلس، أما على يميني وخلفي فيبدو جزء من سور طرابلس القديم، ببوابة مفتوحة تقود إلى سوق قديم متميز بجمال تصميم أقواسه، وبزخارف جدرانه؛ وهو سوق النقاشين. وأمامي مباشرة- ولا يبدو في الصورة- ينتصب مبنى «قلالية مريوطي» في باب الحرية حيث تصنع السروج والغرابيل.

 

سور القلعة ما زال في مكانه، أما مبنى وزارة الداخلية فخارج الخدمة بعد تخريبه وإحراقه في انتفاضة فبراير. ولكن  بالرغم من الخراب والإهمال ما زال يقف شامخاً شاهداً على ماض بعيد انقضى، ابتداءً من الفاشية الإيطالية التي تركت وراءها معماراً ملفتاً بجماله وحسن تصميمه في تناقض واضح مع أيديولوجيتها وممارساتها الوحشية، مروراً بالنظام الملكي، ثم النظام العسكري لأربعة عقود، حتى الحاضر الغارق في الفوضى.

 

النظامان -الملكي والعسكري- لم يتركا إرثاً معمارياً يذكر، بل إن المدينة خلال العهد الدكتاتوري تمددت بشكل سرطاني عشوائي أفقدها ما كانت عليه من جمال، وما ينطبق على طرابلس يطال غيرها من المدن الليبية، وكأن الجمال ترف لا يليق بالأنظمة التي توصف بالوطنية، حتى الغنية منها. وللأسف أن هذه الحالة شملت الكثير من الدول التي كانت تحت قبضة الاستعمار، فالذين حكموها فيما بعد تبلدت علاقتهم مع الفنون والثقافة والجمال، بل وحاربوا واضطهدوا مثقفيهم وكتابهم وفنانيهم بكل الوسائل.

 

المعنى الحقيقي في هذه الصورة ليس الطفل المستريب النظرة والعليل بملابسه الجديدة؛ بل تلك الخلفية التاريخية، وما تحمله من تفاصيل متشعبة لحوادث سياسية شهدتها البلاد في ذلك المكان في أحقاب مختلفة من تاريخها.

مواليد طرابلس، كاتب صحفي و قاص وروائي، ومترجم، ودبلوماسي سابق. ينشر مقالات أسبوعية في جريدة الشرق الأوسط بلندن، وموقع بوابة الوسط، وصحيفة الصباح الليبية.

جمعة بوكليب
القصة التالية
الملك يمشي تائهاً
القصة السابقة
الفتاة في السيارة