الملك يمشي تائهاً

"جميلة الميهوب"

علاقتهما كانت متميزة جداً، علاقة صداقة واضحة وقوية، هذا أكثر ما لفت انتباهي لعمي الملك وأبي الأمير . رجلان عصاميان لا أعرف عن طفولتهما وشبابهما إلا القليل، ينتميان لإحدى القبائل الشريفة كما يصنفها الليبيون (الطيايرة).

فتحت عيني على أبي وعمي رجلين متميزين بالثقافة والتفتح والتحرر، بالحضور الطاغي وأناقة الملوك والأمراء؛ ارتداء البدلة وربطة العنق جزء لا يتجزأ من شخصيتيهما. كانا يتقنان اللغتين الإنجليزية والإيطالية قراءة وكتابة، أبي كان يتقن اللغة الأمازيغية أيضاً، واشتغل مترجماً قانونياً في فترة من فترات عمره.

فصل الصيف، القاهرة، المساء. المكان (عش البلبل) أم (كازينو النيل)؟ لا أذكر، لكن أذكر الرواد الآخرين وعائلتنا وعائلة عمي جالسين إلى طاولة كبيرة، أبي وعمي في ركن الطاولة يتحدثان باللغة الإنجليزية كعادتهما في موضوع خاص، أنا وابنة عمي طفلتان نتسلى بأخذ حبّات الزيتون وقطع الجبن من الصحون.

أمي كانت دائماً تحدثنا عن معاناة زوجة عمي الرجل الوسيم من جاذبيته وأناقته الساحرة، حدثتنا عن الخيّاطة الإيطالية التي كانت تأتي لها ولزوجة عمي لتفصيل ملابسهما عندما كانوا يقطنون المنزل نفسه في بداية حياتهم، عشقت تلك الخيّاطة عمّي وأصبحت تختلق الأعذار للقدوم إليهم يومياً. وحدثتنا عن رفض زوجة عمي السفر للبنان بعد أن رافقته مرة من المرات، حدثتنا وحدثتنا وحدثتنا، وعايشنا الكثير من تلك الأحاديث. لم تتطرق أمي إلى معاناتها في علاقتها بأبي، وكانت تتجاهل ذلك متعمدة.

بعد تقاعده كان أبي يفيق يوم الجمعة باكراً، ويكون فرحاً ممتلئاً بالحيوية، يلبس بدلته العربية وينتظر طق "الكنشيلو" ثم يسرع لاستقبال عمّي (علي) في منتصف الجنان، يصافحه بشوق ويقول: "أهلاً، أهلاً، آنستنا، آنستنا"، ويمسك بيد أخيه إلى أن يصلا داخل البيت. أثناء جلوسهما وشربهما القهوة يتحدثان في أمور حميمة، بعد ذلك ينطلقان بسيارة واحدة إلى مسقط رأسيهما صرمان وهما في قمة السعادة والفرح، يرجعان مساء إلى بيتنا ويرجع عمي إلى بيته في طرابلس، تكرر هذا كل يوم جمعة.

جاء يوم ودخلت الصالون، سحابة من الحزن تعلو المكان، صمت مهيب، صمت الموت. التابوت في منتصف الصالون، عمي علي الملك المهيب يجلس وحيداً هذه المرة منكساً رأسه، شابكاً يديه يبكي بمرارة.

واظب عمي على زيارتنا صباح كل جمعة، يجلس في المكان نفسه، يشرب قهوته ودموعه تغطي وجهه. أحيانا لا يتمالك نفسه فيشربها وهو يبكي ثم ينطلق إلى صرمان وحيداً.

لم يتأثر أحد بموت أبي كما تأثر عمي؛ أخذ يذبل بسرعة فائقة، ذبلت روحه وتراجعت ذاكرته حتى فقدها بالكامل كأنه لا يرغب في أن تكون له حياة وذكريات بلا أخيه، بلا أبي. لم يبق من عمي إلا جسده المهيب، لم يعد واثق الخطوة يمشي ملكاً، بات الملك يمشي تائهاً.

في زيارة لبيت عمي خرج من غرفته ممسكاً بيد ابنته، ساعدته بالجلوس على كرسي من كراسي الطاولة التي كنت أجلس إليها، وجهه بريء كوجه طفل حديث الولادة يبحث عن وجه أمه الذي لم يرَه بعد. مددت لعمي يدي لأصافحه، أخذت ابنة عمي يده ووضعتها في يدي وهي تقول:

-هدِي جميلة بنت خوك بلقاسم، بوي. هدِي جميلة بنت عمي بلقاسم، عرفتها بوي؟

لم تصدر عنه أي ردة فعل، كأنه يرفض أن يتعرف على العالم في غياب أخيه. ربتت على يديه وهي تقول:

-هيا بوي هيا تعالَى، هيا تعالَى نطلعوا الجنان.

ساعدته ابنته ليضع يديه على كتفيها وهي تدير له ظهرها، سارت أمامه واضعة يديها على يديه، كانت ابنة عمي تلف في (الجنان) وتغني، تلف وتغني، تغني، تغني، وعمي يتبعها شارداً ضائعاً تائهاً؛ كان يبحث عن شيء ما.

كانت تلك آخر مرة رأيت فيها عمي.

مواليد طرابلس، نشرت أعمالها في مجلة المعرفة السورية وبعض الصحف الليبية. تحصلت على ماجستير بالتوجيه التربوي وتعمل معلمة مساعدة في كندا.

جميلة الميهوب
القصة السابقة
صورة قديمة وسؤال