1983

"حسام الثني"

الأصغر في الصورة شقيقي النعمان (اللي يكبرني بأربع سنوات)، كان مسؤولاً عن كثير من المعلومات المغلوطة في بداية حياتي: الكباب لحم أسد- حليب (نيدو) يحضروه من بلوك الجير الأبيض- هذا النجم اللي يرمش ف الليل هو القمر الصناعي متاع عيت جَدِّي، وغيرها من الخزعبلات اللي صدّقتها بسبب ثقتي في صِدق الـمُخبِر.

في طفولته كان نعمان مهملاً في الدراسة ومتَعّب باتي وأمي ويشكو منه أساتذته. الأستاذ أحمد الشريف يقول لباتي: "نبيك تشدّدّدّ عليه شوية"، ولما يوصل في تشدّد (يشد ع الدال). باتي يقوله: "كنّه؟ ما ينفعش؟". يقوله: "لا، بس نبيك تشدّدّدّ عليه شوية"؛ (ويشد قبضته السمينة عشان يوصل الإحساس).

ونعمان كان ما يحبش الأستاذ أحمد الشريف وما يحبش يكتب الواجب أبداً مِن هُوَّا في سنة أولى وكان يجد مبررات تحفة وغير متوقعة: "ماما سكرت على شنطتي في الصالون"، يقصد هذا الصالون اللي التقطوا فيه هذي الصورة، واللي عمر أمي ما سكراته. عذر غريب الغرض منه يحط الأبلة في قطيعة موضوعاتية تفهم من خلالها إن فيه ظرف دقيق ونادر يستدعي الانتباه والتَفَهُّم. فريد بكل ما تعني الكلمة من معنى وخياله واسع.

في سنة أولى درس الحساب بالأرقام الهندية (١، ٢، ٣) وهو الأمر اللي كان معمولاً بيه وقتها في ليبيا. لكن لما وصل سنة ثانية - من بخته - جا قرار تغيير الأرقام إلى (1، 2، 3)، ولأنه على طول السنة ما فهمش شن ساير بالضبط؛ استبق الأحداث قبل سنة ثالثة وبدا يسأل عن "شنو شكلهن أرقام سنة ثالثة؟"

كان يميل لشطحات تأويلية على غرار "لحم الأسد". أيام نعمان في الإعدادي يناديه باتي: "شنو ذاكرت اليوم يا نعمان؟" فيبدا في الطيران "كيمياء وفيزياء ورياضيات وأحياء، وراجعت شويّا ف النصوص". يضحك هشام قائلًاً: "ماهو يا تلغي راجعت شويا ف النصوص يا تخليها وتلغي الباقي".

هشام حتى هو عالم آخر، كوميدي ونادر ومتاع مقالب، وإحساس الأمن القومي عنده عالي. كانوا – تأثراً بأفلام حروب الفرس والروم – يقسموا الكارطة ويلعبوا بيها حرب. هشام يقسم أوراقه إلى ملك وقائد والباقي جنود، نعمان يقسمهم: ملك، زوجة الملك، بنت الملك، خالة الملك، الوزير، مجلس الشيوخ، الحراس وترسيله ست أنفار جنود؛ ولهذا خسر كل معاركه أمام جيش هشام الجرار اللي ما فيش هيكل إداري ولا اجتماعي. واحد من المشاهد التاريخية الـمُذِلَّة جيش هشام يحاصر قلعة جيش نعمان:

-"دق دق دق.. افتح".

صوت من الداخل: "لن نفتح".

مروان (شقيقي الأكبر) المبدع والملهم والكاريزماتك يظهر مبتعد عن الواجهة ومتكي على مسند الكرسي؛ كأنها نبوءة لمكانه اللي حيتخذه بعدين. مروان هو السند، مروان من الناس اللي لما يقولك: "ما تخممش" يبقى فعلاً ما تخممش. أنا اعتنقت السفر من زمان وواجهت كثيراً من المتاعب وفي كل مرة نكون في مأزق أو وضع معقد يصعب عليّ الخروج منه يكفي نتصل بيه وين ما كنت أو نكتبله ويجيني الرد كالعادة: "ولا يهمك، ما تخممش"؛ وقتها نطمئن مندون ما يساورني أدنى شك في إني متكي على سند ما يعرفش الخذلان.

نحب خوتي على قد ما أنا ناقم عليهم أني مش معاهم في هذي الصورة. وإذا كانت أمي (نفيسة العَلَمي) حاضرة بكل جمالها المحفور في قلبي، وإذا كان باتي هو اللي -على الأغلب- التقط الصورة، فأنا وأروى وهبة مش حاضرين في هذي الذكرى لأننا ما زلنا ما اوتلدنا، الصورة قبل نوتلد أنا بعام تقريباً في حوشنا في "أرض لملوم" ببنغازي.

مواليد بنغازي، كاتب، وباحث في مجال السياسات الثقافية والإدارة الثقافية، عضو مؤسس لمنظمة تاناروت ومؤسس المختبر الليبي للسياسات الثقافية. صدرت له مجموعة نصوص أدبية “حضرة السيد ظلي.

حسام الثني
القصة السابقة
الملك يمشي تائهاً