من سيرة البير والسانية

"حواء القمودي"

هكذا أتسلل مثل عاشقة إلى حيث بير سانيتنا، أنظر لجناحيه وإلى المصَلّى وإلى الجابية والميدة. حلقتا بنات، وحواء صحبة رفيقاتها تلعب الخميسة، بينما البنات الأكبر سناً مزهوات بأجسادهن المتفتحة، يتخافتن الحديث والضحكات.

ونداء يتعالى وعمنا محمد الشعبان يطلب منّا أن نقف طابوراً، تقف حواء في آخر الصف في الصورة المؤطرة. بنت قصيرة بقفطان طويل واسكوفية  على الرأس معقودة تحت الذقن، وجزء من الضفيرة مرميٌّ على الكتف.

يتلفت قلبي للميدة والماء يتدفق، وذلك الضريح الصغير (سيدي الشريف) وليّ عائلتنا الكبيرة، نغرس شمعاتنا في ترابه ونزغرد فتتعالى نقرات الدربوكة:

"هذا قنديلك  ياحوا

يشعل م المغرب لتوة".

إنه الميلود، أيادينا المحناة يفوح منها عبير الرُّب وزيت الزيتون من عصيدة الأمهات الطيبات.

ها جناحاك يتسامقان، وعمتي امني تحكي عن أخيها  اقميدة أبي القمودي: "لما شوّر للحج، كان هذاك العام يحجوا في البابور"، وعن تلك البنت "المطرشقة حَوَّا" وهي تحتضن دربوكة أكبر منها وتغني:

"إن شا الله يروّح هالبحبوح

ويجيب اللوبان باللوح".

ينشطر قلبي وركام الجابية الكبيرة يراقبني، والصيف الحار ونحن صغار نسرق القيلولة من غفوة الأمهات.  الماء البارد يغمرنا ويعلو صراخنا، بعض منّا يقفز إلى تراب فم الحياش، يتمرمد في سخونته ثم يركض إلى برودة الجابية.

وها هي المصطبة الصغيرة (الرتاحة) وتلك البنت مقرفصة عيناها شاخصتان. فم الحياش مكتظ بخيول ورجال بأسلحة ولباس يصدر لمعاناً من أكتافهم وأشرطة تلهو بها الريح، وعلى الرؤوس طرابيش، ينظر بعضهم باتجاهها مبتسمين. بعد سنوات أخبرها أخوها محمد: "هذا عام  النكسة 67، الناس طلعت  بتهجم على قاعدة هويلس، وجي الجيش الملكي لحراستها". سانيتنا حذو فم المنقيت أو بوابة  قاعدة هويلس، (عقبة بن نافع، جمال عبد الناصر، امعيتيقة) لاحقاً.

ها هي حوَّا تقرفص ليلاً على الرتاحة تبكي ويعلو نشيجها، وهي تسمع صوت الدربوكة والتصفيق والغناء والزغاريد:

"يا والله نهار مساعد

عرس الزينة وبوها قاعد".

"الزينة" هي فاطمة رفيقة طفولتها وصديقة الصبا، كانتا تنتظران نتيجة امتحان الشهادة الإعدادية وترسمان حلم المستقبل: حوا محامية وفاطمة طبيبة. ولكن ثمة خطبة يا فاطمة! تذكرها وهما جالستان على جذع نخلة نزعوا جُمَّارها: "ماتخافيش يا حوا؛ لو ما خلانيش انكمل قرايتي نروح لحوش بويّ".

هل تذكر المصطبة نشيج روحي ويقيني أن فاطمة لن تعود؟

 

وقبل ذلك يرقص النسيم والتوتة تحنو على البير وحواء تنقع قدميها في الميدة، تنتظر فاطمة لتذهبا للمدرسة ولتبتهجا بأول صورة مدرسية. معلمتنا أبلة نوارة البهليل انتبهت أني من غير "رقبة" لتظلل على القرمبيول، فطلبت من زميلتي حميدة أن تعيرني (رقبة النايلون) لألبسها. ظهرت صورتي وثمة التواء في الرقبة النايلون، لكنها صورة جميلة أرسلتها أمي مع صور لإخوتي مع ابن عم أبي المسافر للقاهرة، فجاءت صورنا في دائرة محاطة بإطار علقتها أمي على حائط الدار البحرية بحوشنا العربي.

وها هو فم البير الذي تعلوه الألواح، وها أمي زهرة تركض حتى ينكشف غطاء (رداها) عن رأسها لتنقذ "عويل  يكبَّه"  فتسحره رقرقة المياه،  لكنها "تجبده قبل ما يغلبه راسه "ويسقط". والله لو كان طاح حجتى هذي ما نحسبها" تقول، لكنها تتنفس بارتياح فأنظر لصورتها مكحلة العينين ووشمها يزغرد وقُصتها تظهر بخجل من التستمال المعقود.

وكأنه جبلٌ أو طودٌ هكذا أراه، هو بير سانية الحافي، ماؤه (شلوق)، فأتذكر صورة ضائعة:

جدي  امحمد يعطيني (لَقَّامة) كي أحلب البقرة، لكن يديَّ حين مسدتا الضرع الممتليء حليباً أسقطتا اللقامة كي تذودا عن عينيَّ صفعة ذيل البقرة الغاضبة. يمسح جدي عينيَّ بماء البير فأطمئن، ثم التوتة  السوادي تناديني، حواء تركض لتلحق بالرفيقات ويهجزن:

"توت توت توت

واميِّة الساروط" .

مواليد طرابلس، شاعرة و صحفية ورئيسة تحرير مجلة “الأمل” للأطفال سابقا. صدرت لها ثلاثة دواوين شعرية، شاركت في تحرير أنطولوجيا “قصيدة النثر الليبية”.

حواء القمودي
القصة التالية
من شرارات الذاكرة