من شرارات الذاكرة

"خالد المطاوع"

لا أدري متى أُخِذت الصورة. أريد أن أقول إنني صورتها ولكنني أعلم أن الكثير جرى في حياة عائلتي بعدما غادرت البلاد، فالصورة دليل ليس لحضوري بل لغيابي الذي طال أيضاً.

الصورة لخاليَّ وأمي: مصطفى الذي يبدو غير مألوف بشاربه الشرقي هنا، وعبد الرحمن الذي يبدو مركزاً على سيجارته وغير مكترث بالحديث، ومعهما أختهما الكبرى، أمي، حليمة التي تنظر نحو الكاميرا وكأنها فاجأتها. كونهم لا ينظرون للكاميرا يعزز جزمي أنني أنا الذي صورتها؛ فلم أكن أحب الصور التي يصطف فيها الناس مبتسمين، فقد كنت بدون وعي مني أحب أن ألقط الواقع كما هو، وربما هذه النزعة جذبتني للكتابة.

بالرغم مما لا أعرفه فهناك معلومات أكيدة: الأولى أن هذه الصورة أخذت في بيتنا في بنغازي، وأن الخالين كانا في زيارة من طرابلس.

والمعلومة الثانية هي أنهم كلهم رحلوا، آخرهم عبد الرحمن الذي وافته المنية قبل أسابيع من كتابة هذا النص. عبد الرحمن الضابط السابق منسق المراسم في وزارة الخارجية، والبستاني المتقاعد الذي كوّن من بيته جنة في الأرض من الورود والنباتات العطرة ليس بسبب سحر أصابعه الخضراء فقط، ولكن لأن نباتاته كانت تكافئه على زهده وقناعته.

أما مصطفي المهندس المقاول الشاطر المرح الذي كان بإمكانه أن يصادق أي شخص والذي كان يملأ أي بيت ببهجة مداعبته فقد توفي مبكراً في أواخر خمسيناته.

أما والدتي فقد دفنتها أنا بيدي في عامها الخامس والثمانين في مقبرة الليبيين في القاهرة العام الذي طاردتها الحرب من بيت لبيت إلى أن تركت بنغازي.

أما المعلومة الثالثة فهي أن أخوالي المقيمون في طرابلس كانوا لا يغيبون طويلاً عن أختهم الكبرى وكانت زياراتهم تحفل بفتح ملفات الذاكرة. منهم تعلمت أن جدهم أبا أمهم، عمر السويحلي، توفي في معركة راس الطوبة بمصراته: كانت العائلات تشارك في الحرب معاً. كان عُمر قد طلب من جدتي، إبنته "امنى"، أن تحضر له الماء، وعندما رجعت وجدته ميتاً برصاصة إيطالية هشمت رأسه.

ومن حديثهم رسمت خريطة رحلة عشيرتهم لمصر، وعرفت أن والدي ولد خلال الترحال، وأن الإنجليز رفضوا أن يدخلوهم مصر في بادئ الأمر، وأنهم انتشروا في مصر وشاءت الأقدار أن تتزوج أمهم التي كانت فتاة حينها من رجل ليبي يكبرها بثلاثين عاماً؛ وهو جدي "الصالحين" الافندي من بنغازي صاحب الطربوش والشارب الكلاسيكي الذي كان قد استقر في "كفر الدوار" بعد فشل المفاوضات بين الأمير ادريس والاحتلال. لم يعش والدهم الصالحين طويلاً -ترك مصطفى في عامه الأول وعبد الرحمن في عامه السادس ربما. ولما كانت أمي ابنته الكبرى وأكثر من عاشره فيهم فقد كانت تذكره أكثر وبتفاصيل أدق.

كان حديثهم أيضاً عن "كفر الدوار" التي غزلتها في خيالي بما شاهدته من أفلام مصرية حتى باتت قرية ساحرة بترعها وغيطها، والجيران من الخواجات والأقباط، وحلقة السمك والقطار الذي يهز البيوت التي يمر أمامها. في شتاء 1992 زرنا تلك البلدة التي لم ترها أمي ربما أربعين عاماً، وكما حذّرنا شاعر الإسكندرية قسطنطين كافافي فقد أحبطتنا كفر الدوار ولم نجد فيها شيئاً مما تذكرته أمي. ولكن عندما درنا بالسيارة بين الحقول المجاورة كانت أمي تشير لحقل ما وتقول: هذه بامية، وهذا شعير، وهذا برسيم إلخ، كأنها لم تترك المكان أبداً.

عدت بأمي لتلك الحقول مرة أخرى في 2015 وتمتعنا بنضارة زرعها ودفء شمسها وانعكاس النور على قنواتها. ولكن السحر لم يطل، فقد افتقدت أمي بنغازي وبيتها ومزرعتها الصغيرة  وزيارات أحفادها، ولم تواسِها زيارة مراتع طفولتها؛ فكل ماض بإمكانه أن يصبح زمناً جميلاً إلا إذا حاولت أن تعيشه ثانياً.

مواليد بنغازي، شاعر وأكاديمي، صدرت له عدة دواوين وتراجم باللغة الإنجليزية، وأستاذ الأدب والكتابة الإبداعية بجامعة ميتشغان بالولايات المتحدة.

خالد المطاوع
القصة السابقة
من سيرة البير والسانية