الجيرة

"خيرية حفالش"

كانت جالسة خلف عدالة الشاهي ( وهي عبارة عن موقد بريموس وأربع علب، للشاي الأحمر والأخضر والسكر والنعناع أو تفاح الشاهي، وبرادين واحد لطهو الشاي وآخر لتصفيته، وسخان لحفظ الماء وطاولة توضع عليها الأدوات ).

وكانت أمهاتنا يحافظن على العدالة لأنها جزء مهم من حاجيات المطبخ. كانت خالتي تعد الشاهي ورائحة النعناع ممزوجة مع رائحة الشاهي الأخضر، وفيما هي تسكب الشاهي في أكوابه لتقديمه لعائلتها صرخ وليد فجأة: "سمعتي يام؟"

"خير إن شاء الله؟"

"سمعت أن عيت خالتي عزيزة يبو يحوّلوا  ويبو يبيعوا حوشهم."

انتفضت خالتي وهي تصرخ: "لا ما تقولها بكل، عطك خير ايش قلت؟ ايش هالخبر؟"

 

خالتي هي ربح بن سعود، ونحن نناديها خالتي لأنها من قبيلة المسامير وهي نفس قبيلة امي. خالتي ربح بن سعود المسماري مواليد 1949من مواليد الفايدية الجبارات، ولدت في حقفة عيت بن سعود؛ وهو كهف معروف باسمهم إلى هذا اليوم.

والفائدية منطقة تقع جنوب البيضاء بحوالي 22 كم. تتبع الفايديةَ عدةُ قري مثل: اشنيشن وبلقس والسابه والظفيرية والكروين واسباق ونخلات. وسبب تسمية الفايدية نسبة إلى قبيلة تستوطنها أسمها عيت فايد. كما تحتوي الفايدية على آثار تاريخية موجودة إلى الآن، ومنها القلعة التي تعود إلى العهد العثماني، كما يوجد بها مسجد بني عام 1848م.

 

خالتي ربح شخصية بدوية كريمة شجاعة، صاحبة موقف في الأفراح والأحزان. صرخت في وجه أولادها: "ربي ما يكتبها تسيبني عزيزة."

"عزيزة" هي أمي من نفس جيل خالتي ربح، وكانت رفيقتها وصديقتها ومستودع سرها. أمي حنونة حد الكمال، تمتلك هي ووالدي -رحمة الله عليه- مزرعة في المدينة الرياضية في مدينة البيضاء، كان بها بقر ونحل ودجاج. كان لوالدتي قناعة بأنه لا يجوز بيع منتجات المزرعة، فهي تحمد الله أن المزرعة تشبعنا نحن وأصحابنا وهذا في حد ذاته عطاء غير محدود.

 

قامت خالتي من مكانها وهي تردد: "ايش زاريبهم عيت فرج، كنها عزيزة؟"

خرجت خالتي فرح من بيتها إلى بيتنا والدموع منهمرة من عيونها تردد غناوة العلم: "مفجوع كل يوم بفقد، مخلوق قيسني للبكاء". فأمي كانت لها المشكى والصاحبة ورفيقة عمرها.

وصلت خالتي إلى بيت أمي وقالت لها قبل أن تسلم عليها: "من جِدِّك ياعزيزة تبي تسيبيني؟"، قالت لها أمي: "والله مانك هاينة عليّ؛ لكنْ سيف الإسلام يبي ياخذ المزارع اللي في المدينة الرياضية وفرج خايف علي مزرعته، وأنتِ عارفة فرج ساقي المزرعة بدمه وما يحمل فيها شي، وبعدين يا بنت بن سعود البعد بعد النية وأنتِ تعرفي المزرعة قريبة، توا تجيني غادي ونشوهوه تحت الخروبة".

"لا والله يا بنت عبدالله ما كيف وأنتِ جارتي. ويا بنت عبدالله. غيبة عزيز كيف الموت، والموت كيف نلقا له دواء؟"

خرجت خالتي فرح وهي تبكي، وفي المساء سمعت أن رجلاً جاء يريد شراء منزل جيرانها فذهبت إليه وقالت: "الحوش فيه عفريتة". ضحك الرجل قائلاً: "كنك معانا يا حاجة؟ شكلك ما تبنيش جارك". ردت عليه: "أنا نبي جيراني، وكيف عزيزة مانلقى جارة."

ذهبت إلى بيتها وهي تردد: "إن شاء الله يومي قبل ما يشيلوا عيت فرج،" وقالت غنَّاوة عَلَم: "من قبل واخذ علي الفقد، ارباوة شقا يا امْهَوّلَة."

نعم، هذا ما حدث. انتقلت خالتي إلى رحمة الله قبل أن ينتقل جيرانها بشهر تقريباً.

مازال فقد خالتي موجعاً ومحزناً، خالتي التي تربينا مع أولادها وتشاركنا معهم كل شيء: المأكل والمشرب.

رحم الله خالتي ربح، ورحم والدي الحاج فرج حفالش، ورحم كل موتي المسلمين.

مواليد البيضاء، باحثة في التاريخ الوسيط الأوروبي وأستاذة بجامعة الجبل الأخضر. صدر لها «الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية» عام 2015.

خيرية حفالش
القصة التالية
ذاكرة بنغازي في عمارة
القصة السابقة
من شرارات الذاكرة